Latest News

0

لدى المتخصصون في موضوع التميز قاعدة تنص على أن التميز في هوية أي مؤسسة, ورسوخها ورواجها, إنما يكون تبعاً لتميز وتفوق حامليها, وهي لا شك قاعدة صالحة للتميز في مؤسسات عالم الدنيا المادي, أمّا إذا كان الحديث عن تميز الدين الإسلامي ومؤسساته فإن تلك القاعدة تكون صحيحة من جهة, وخاطئة من جهات أخرى.

الدين الإسلامي حق في ذاته, وصالح لكل زمان ومكان, وكامل وشامل, سواءً تميز أهله بصدق اتباعهم له, والسير على نهجه, والعمل الجاد لرفعته, أو نبذوه وراء ظهورهم, فهو المنهاج الإلهي الحق, بينما لا يشترط في مؤسسات عالم الدنيا المادي المتميزة أن تكون حق في ذاتها, وهذا هو جانب الخطأ الأول في القاعدة السالفة الذكر أنها جمعت في عالم التميز بين الحق والباطل, وهو خطأ فادح, حيث لا ينبغي لمؤسسات الباطل أن تتميز, لأن في هذا تأييداً لمن يدندن حول مقولة الغاية تبرر الوسيلة, ولذا نرى صناعة السينما, وخاصة تلك التي تعمل على دغدغة جوانب الشهوة في الإنسان, باطلة ومنحلة, غير أن مروجوها يسعون للتميز في أدائها مما يؤدي في النهاية إلى رواجها وانتشارها بين عملائها.

كما أن التميز في الإسلام منحصر في أمرين عظيمين.

أولهما: خاص بالإسلام, يتفرد به ولا يشاركه فيه أحد, ولا تطاله القاعدة الآنفة الذكر, وهو أنه عند الإقبال على الإسلام بصدق, فإن الإسلام هو الذي يميز صاحبه, وليس العكس, ويصبغه بصبغة الله, ومن أحسن من الله صبغة, ويحيله إنسانا ناجحا في جوانب حياته المختلفة, ويرفع ذكره في العالمين, وذلك لاتباعه المنهج القويم.

وثانيهما: إن هذا التميز الذي وفق الله إليه هذا المسلم الصادق, سيجعل منه قدوة للآخرين, وسيعمل على الإقناع بالإسلام وتسهيل نشره وتبليغه, وهذا هو الجانب الوحيد الصحيح من تلك القاعدة التي ذكرناها آنفاً.

ومن هذين الأمرين للتميز في الإسلام سيكون مدخل حديثنا في كون قدر ساكني مكة أن يكونوا متميزين في تعظيمهم واتباعهم لشرع الله تعالى لما لذلك من أثر بالغ على نشره وتبليغه.

في هذا العصر, أفلح الناس في التميز في العالم المادي, فرفعوه في مأكلهم ومشربهم وملبسهم, ورفعوه كذلك في ألوان الرياضة المختلفة, وسابقوا في التميز في الصناعة والزراعة, وبلغوا ذروة التميز في عالم التقنية الرقمية, غير أن باباً واحداً لم يطرقوه, بل تركوه, إلا ما رحم ربي, أمراً شخصياً يتميز فيه فلان ويفشل فيه آخر.

لقد ترك الناس في هذا العصر, التميز في عالم القيم والمبادئ, وهو الباب الأخطر على الإطلاق, لما له من آثار عظيمة, دنيوية وأخروية, على الفرد والمجتمع, فكثير من المؤسسات قد حصرت مجال تميزها في عالم المادة, تنقب عنها أينما كانت, عاكفة على استخراج ما تستطيع استخراجه من مال من جيوب عملائها, باذلة في ذلك الجهود المضنية والأوقات الطويلة والدراسات المركزة للقفز بالتطوير والإبداع فيها.

وهنا يبرز دور المجتمع الرباني الأزلي الخالد والرائد في التميز في باب القيم والمبادئ, والذي لا يجاريه في مجاله أحد, وهو مجتمع مكة المكرمة, الذي جعله الله هدى للعالمين, والذي ينصبغ فيه المسلم بصبغة الإسلام بشكل متميز وقوي فيغدو إنسانا ناجحا في جوانب الحياة المختلفة, حيث جمع الله له من الآيات البينات, ومن الدوافع والمحفزات ما يمكنه بها من عكس أجمل صورة مشرقة للإسلام العظيم.

إنه يُراد لساكن البلد الحرام, مقيماً فيها أو وافداً عليها, أن يتميز عن غيره من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها, في عباداته ومعاملاته, حيث أن مجاورته للبيت الحرام, ووجوده داخل بقعة هي أحب إلى الله تعالى من سائر البقاع, وأحب إلى رسوله صلى الله عليه وسلم, وهو المكان الذي نزل فيه الوحي بالرسالة الخاتمة, والمكان الذي خصه الله تعالى بالآيات البينات, كل هذا يجعل من ساكن مكة على معرفة وعلم ورضى وإقرار بالانسجام والتوافق التام مع البيئة الطاهرة المقدسة, وما يتطلبه ذلك من مستوى من التعظيم لشعائر الله يتناسب مع المكان العظيم الذي يسكنه.

ولا شك أن الاستقامة على النهج القويم, حتى خارج البلد الحرام, تحتاج بعد الاستعانة بالله إلى الصبر وبذل الجهد, ولذا فقد كان صلى الله عليه وسلم, وهو الأسوة والقدوة, يصلي حتى تتفطر قدماه, وحينما دب الشيب في رأسه صلى الله عليه وسلم وسأله الصحابة رضوان الله عليهم عن ذلك, قال صلى الله عليه وسلم (شيبتني هود وأخواتها), ذلك لأن سورة هود فيها قول الله تعالى: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا), وعلى هذا, فما دام أن الاستقامة في أي مكان تتطلب الصبر وبذل الجهد, فكيف بها في مكة المكرمة التي أرادها الله تعالى أن تكون هدى للعالمين, ومن هنا جاءت حكمة الله تعالى البالغة في وضع تشريعات خاصة بالبلد الحرام تأخذ بأيدي ساكنيه على الاستقامة المتميزة, جمع فيها لهم بين الترغيب والترهيب, ولكنهما ترغيب وترهيب خارقين.

إنهما حافزان محاطان ببيئة العظمة, البلد الحرام, حيث رغب الجواد الكريم ساكني مكة بمضاعفة الأجور في أعظم مكان, في حرمه سبحانه, وبجوار بيته, الذي أضافه تعالى لنفسه, (بيتي), ومن هنا كانت الأجور كبيرة, لتتناسب في حجمها مع عظمة المكان, قال صلى الله عليه وسلم: (وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ), وفي الجانب الآخر, الترهيب, فقد خوفهم بشدة في الحساب, تتناسب مع جلالة وقداسة وعظمة المكان أيضاً, قال تعالى: ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم).

ولعل ما سبق بيانه من ضرورة تميز ساكني البلد الحرام في عباداتهم ومعاملاتهم يعضد ويقوي أدلة القائلين بأن مكة المكرمة كلها حرم, فلو كان القول الثاني هو الأرجح, وأن الصلاة تتضاعف عند أدائها في المسجد الحرام فقط, لضعف الدافع والمحفز لأهل مكة في أن يتميزوا في أي بقعة كانوا داخل حدود مكة المكرمة, وبما أن العبادة والحركة المجتمعية وحسن التعامل لا تنحصر في المسجد الحرام فقط, بل لابد أن يعكس كل من هو داخل حدود البلد الحرام عظمة الإسلام وسموه.

وأخيراً وبعد أن يميز الله تعالى المسلم الصادق السوي في البلد الحرام في جانبي العبادات والمعاملات, هو وباقي إخوانه ممن سكن أو وفد إلى البلد الحرام, يغدو هذا التميز المجتمعي شعلة مضيئة للعالمين, قال تعالى: (إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين •  فيه آيات بينات), ينير به الطريق للحائرين التائهين في مشارق الأرض ومغاربها.

إرسال تعليق

Emoticon
:) :)) ;(( :-) =)) ;( ;-( :d :-d @-) :p :o :>) (o) [-( :-? (p) :-s (m) 8-) :-t :-b b-( :-# =p~ $-) (b) (f) x-) (k) (h) (c) cheer
Click to see the code!
To insert emoticon you must added at least one space before the code.

 
Top