0

حكم الطعن في أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها


السؤال: ما حكم من قذَف عائشة رضي الله عنها؟

الجواب:
الحمد لله.
إنَّ عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين داخلاتٌ في عموم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكل نصٍّ نهى عن سبِّ الأصحاب فعائشةُ داخلة فيه.

ومِن ذلك: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي؛ فلو أنَّ أحدكم أنفَق مثل أحُدٍ ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصيفَه))[1].

ثم إن علماء الإسلام من أهل السنة أجمعوا قاطبةً على أن من يَطعن في عائشة بما برَّأها الله منه فهو كافر مكذِّب لما ذكره الله من براءتها في سورة النور.

وقد ساق الإمامُ ابن حزم بسنده إلى هشامِ بن عمار قال: سمعتُ مالكَ بن أنس يقول: "مَن سبَّ أبا بكر وعُمر جُلد، ومن سبَّ عائشة قُتل، قيل له: لِم يُقتل في عائشة؟ قال: لأنَّ الله تعالى يقول في عائشة رضي الله عنها: ﴿ يَعِظُكُمَ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 17]".

قال مالكٌ: "فمن رماها فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قُتل".

قال ابن حزم: "قول مالكٍ ههنا صحيحٌ، وهي رِدَّة تامة، وتكذيبٌ لله تعالى في قَطعه ببراءتها"[2].

قال أبو بكر ابن العربي: "لأنَّ أهل الإفك رمَوا عائشة المطهَّرة بالفاحشة، فبرَّأها الله، فكلُّ مَن سبَّها بما برَّأها الله منه فهو مكذِّب لله، ومن كذَّب الله فهو كافر، فهذا طريق مالك، وهي سبيلٌ لائحة لأهل البصائر"[3].

قال القاضي أبو يَعلى: "مَن قذف عائشة بما برَّأها الله منه كفَر بلا خلاف، وقد حكى الإجماعَ على هذا غيرُ واحد، وصرَّح غير واحد من الأئمة بهذا الحكم"[4].

وقال ابن أبي موسى: "ومن رمى عائشةَ رضي الله عنها بما برَّأها الله منه فقد مرَق من الدين ولم ينعقد له نكاح على مسلمة"[5].

وقال ابن قدامة: "ومن السُّنة الترضِّي عن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّهات المؤمنين المطهَّرات المبرَّآت من كلِّ سوء، أفضلهنَّ خديجة بنت خويلد وعائشة الصدِّيقة بنت الصديق التي برَّأها الله في كتابه زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فمَن قذفَها بما برأها الله منه فقد كفَر بالله العظيم"[6].

وقال الإمام النووي رحمه الله: "براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك، وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكَّك فيها إنسانٌ والعياذ بالله صار كافرًا مرتدًّا بإجماع المسلمين"[7].

وقال ابن القيِّم رحمه الله: "واتفقت الأمة على كُفر قاذفها"[8].

وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: "أجمع العلماء رحمهم الله قاطبةً على أن من سبَّها بعد هذا ورماها به بعد هذا الذي ذكَر في هذه الآية فإنه كافرٌ؛ لأنه معاندٌ للقرآن"[9].

وقال بدر الدين الزَّركشي: "من قذَفها فقد كفر؛ لتصريح القرآن الكريم ببراءتها"[10].

الأدلة على الحكم السابق:
قال السيوطيُّ: "قال العلماء: قذفُ عائشة كفر؛ لأنَّ الله سبَّح نفسه عند ذكرها، فقال: ﴿ سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 16]، كما سبح نفسه عند ذكر ما وصفه به المشركون من الزوجة والولد"[11] [12].


وقد بنى العلماءُ كلامَهم في حُكم من قذَف عائشة على عددٍ من الأدلة، ومنها:
(1) الاستدلال بما جاء في سورة النور من التَّصريح ببراءتها، فمَن اتَّهمها بذلك بعدما برَّأها الله فإنما هو مكذِّب لله عز وجل، وتكذيبُ الله كفرٌ لا شك فيه.

(2) أن في الطعن في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم إيذاءٌ له صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنَّ إيذاءه صلى الله عليه وسلم كفرٌ إجماعًا، ومما يدل على تأذِّي النبي بقذف زوجِه ما أخرجه الشَّيخانِ في صحيحيهما من حديث الإفك عن عائشة قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومِه، فاستعذَر مِن عبدالله بن أبيٍّ وهو على المنبر، فقال: ((يا معشر المسلمين، من يَعذِرني من رجلٍ قد بلغَني أذاه في أهلي؟! والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا....))؛ الحديث.

فقوله صلى الله عليه وسلم: ((من يَعذِرني))؛ أي: مَن يُنصِفني ويقيم عُذري إذا انتصَفتُ منه لما بلغني مِن أذاه في أهل بيتي؟ فثبت أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم تأذَّى بذلك تأذيًا استعذَر منه.

قال الإمام القرطبيُّ عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا ﴾ [النور: 17]؛ يعني: في عائشة؛ لما في ذلك من أذيَّةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في عِرضه وأهله، وذلك كفرٌ مِن فاعله.

(3) كما أن الطعن في عائشة يَستلزِم الطَّعنَ في الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد قال: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ﴾ [النور: 26]، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "أي: ما كان الله لِيَجعل عائشةَ زوجةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهي طيبة؛ لأنه أطيبُ مِن كل طيِّبٍ من البشر، ولو كانت خبيثةً لما صلحَت له شرعًا ولا قدَرًا"[13].

ثم ليُعلَم ختامًا أن أحبَّ الناس إليه صلى الله عليه وسلم عائشة، الصديقة بنت الصديق؛ كما صحَّ عن عمرو بن العاص قال: بعثَني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذات السلاسل، قال: فأتيتُه، قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: ((عائشة))، قال: قلت: فمِن الرجال؟ قال: ((أبوها إذًا))، قال: قلت: ثم مَن؟ قال: ((عمر))، قال: فعدَّ رجالًا.

فمَن أبغض حبيبةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حريٌّ أن يكون بغيضَه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، والله أعلم.

(4) وعد الله بقَبول توبة من قذَف عامَّة المسلمين في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 4، 5].
بينَما ذكَر الله عز وجل أنه لم يقبَل توبةَ من رمى أمَّهات المؤمنين؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23].

فقد ذكرَت هذه الآية بعد براءة عائشةِ رضي الله عنها.

فانظر الفرقَ بين الآيتين السابقتين وبين هذه الآية:
(1) في الأوليَينِ ليس فيهما لعنٌ مِن الله في الدنيا والآخرة لمرتكب المعصية؛ بخلاف الآية الأخرى التي فيها قذفٌ لعائشة رضي الله عنها.

(2) ليس هناك وعيدٌ بالعذاب العظيم، بينما الوعيد بعد آيات البراءة.

(3) أعطى الله للقاذف بابَ التوبة، بينما لم يَذكر ذلك بعد آية البراءة.

(4) وعده بقبول التوبة: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 5]، ولم يَذكر ذلك في الأخيرة.

فلم يُعطه فرصةً للتوبة ولا للمغفرة، وهذا لأنَّ حكمه الكفر.

والمقصود بعدم قَبوله التوبةَ يعني في الدنيا؛ بحيث إنه لا بدَّ أن يُقام عليه الحد، ويوضِّح ذلك الشيخُ ابن عثيمين رحمه الله، حيث قال:
أجمع العلماءُ على أنَّ من رمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما جاء في حديث الإفك فإنه كافر مرتد؛ كالذي يسجد للصَّنم، فإن تاب وأكذبَ نفسَه وإلا قُتل كافرًا؛ لأنه كذَّب القرآن.

على أن الصحيح أنَّ مَن رمى زوجةً من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بمِثل هذا فإنه كافرٌ؛ لأنه منتقِص لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كلُّ من رمى زوجة من زوجات الرسول بما برأ الله منه عائشة فإنه يكون كافرًا مرتدًّا يجب أن يُستتاب، فإن تاب وإلا قُتل بالسيف، وأُلقيَت جيفته في حفرةٍ من الأرض بدون تغسيلٍ ولا تكفين ولا صلاة؛ لأن الأمر خطير[14].

وقال أيضًا رحمه الله تعالى: وذلك أنَّ من رمى زوجاتِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو واحدة مِنهنَّ؛ سواء كانت عائشةَ أو غيرها فإنه كافرٌ مرتدٌّ، خارج عن الإسلام، ولو صلى وصام، ولو حج واعتمر؛ لأنه إذا قذف زوجات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالزانية خبيثة بلا شك، وقد قال الله تعالى: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ﴾ [النور: 26]، وإذا كانت خبيثة وزوجها محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لزم من ذلك أن يكون الرسول - وحشاه - خبيثًا!

وعلى هذا يكون قذف واحدة من أمهات المؤمنين كفرًا وردة، فإذا تاب الإنسان من ذلك قبِلَ الله توبته، ولكن يجب أن يُقتل للأخذ بالثأر لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يمكن للمؤمن أن يرضى أن يكون رسولُ الله صلى الله عليه وسلم زوجًا للعاهرات، فلنا الحق في أن نقتله؛ لأن هذا حقُّ رسولنا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا نعلم أنه عَفا.

وخلاصة ذلك أن الذين قالوا: إن من قذف زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم لا توبة له؛ يريدون بذلك أنه لا يَرتفع عنه القتل، ولا يريدون أن الله تعالى لا يعفو عنه؛ فإن الله تعالى يقبل توبة كل تائب، وإذا أردت أن تعرف مدى عِظَم قذف إحدى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بالزنى فانظر ماذا أنزل الله تعالى في الذين جاؤوا بالإفك من الآيات العظيمة التي هي كالصواعق على من جاء بالإفك؛ انظر إلى قوله تعالى: ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15] يتبيَّنْ لك مدى عظم قذف زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام بالزِّنى! فنسأل الله تعالى أن يبتُر لسانَ مَنْ قذف إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بالزنى، وأن يسلط عليه من يُقيم عليه الحدَّ؛ إنه على كل شيء قدير[15].

نسأل الله العليَّ العظيم أن يَنفع بهذا الكلام كاتبه وقارئه، والناظر فيه بإحسان، ومبلغه إلى غيره يرجو له الخير والهداية في زمان اضطربت فيه الفتن، وكثرت فيه الأهواء، ولا ينجو إلا المخلصون.

نسأل الله أن يجعلنا ممن ﴿ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 18].

وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين


[1] رواه البخاري: فتح رقم (3379).
[2] المحلَّى (13 /504).
[3] أحكام القرآن (3 /1356).
[4] انظر الصارم المسلول لابن تيمية (ص568).
[5] المصدر السابق.
[6] لُمعة الاعتقاد (ص29).
[7] شرح النووي لصحيح مسلم (17 /117، 118).
[8] زاد المعاد (1 /106).
[9] تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
[10] الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة (ص45).
[11] يشير إلى قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ﴾ [الأنبياء: 26].
[12] الإكليل في استنباط التنزيل (ص190).
[13] تفسير ابن كثير.
[14] انظر: شرح رياض الصالحين (3 /13).
[15] فتاوى نور على الدرب 6 /239.

إرسال تعليق

 
Top