0

عبادة عائشة رضي الله عنها[1]


تأثَّرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كثيرًا بعبادة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهجه فيها؛ لأنها كانت ألصقَ الناس به صلى الله عليه وسلم، وأكثرَهم اطلاعًا، فمن هنا حفظت عائشة رضي الله عنها في رواياتها الكثيرة في مسندها من هذا النوع، وقدَّمَت للأمة صورة كاملة ومنهجًا ثابتًا لعبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت المداومةُ والثباتُ سِمتَها البارزة، كما روت عائشة رضي الله عنها أنَّ عمله كان دِيمةً، وإذا صلَّى صلاة داوم عليها، وكان أحب الأعمال إليه الذي يُداوم عليه صاحبه، وغير ذلك[2].

وكما كان هذا هو منهجها العملي، كانت تحثُّ تلاميذها على ذلك.

فهذا عبد الله بن قيس يقول: قالت لي عائشة: لا تدَع قيام الليل؛ فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعُه، وكان إذا مرض أو كسل صلَّى قاعدًا[3].

وكذا كانت تصلي الضحى وتطوِّل فيها، وتداوم عليها، ولم تتركها كما روَت رُميثة بنت حكيم قالت: دخلتُ على عائشة في بيتها فوجدتها تصلِّي الضحى ثمان ركعات تغلق عليها بابها، فقالت: أخبريني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أنا بمخبرتِك عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا، ولكن لو نشر لي أبي أن أتركها ما تركتها[4].

وهكذا كانت حالها في نوافل العبادات من الصيام، كما ذكَر ابن سعد وغيره أنَّها كانت تصوم الدهر، وفي بعض الروايات أنَّها كانت تسرد الصوم.

ومعنى ذلك أنها تصوم الأيام التي لم يرد في حقِّها النهيُ عن صومها، فكانت رضي الله عنها تصوم حتى في أيام الحرِّ الشديد مهما بلغ منها الجهد والتعب، فهذا عبد الرحمن بن أبي بكر دخل على عائشة رضي الله عنها يوم عرفة وهي صائمة، والماء يرشُّ عليها، فقال لها عبد الرحمن: افطِري، فقالت: أُفطر وقد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن صوم يوم عرفة يكفِّر العام الذي قبله))؟![5].

بل كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة، كما ذكر عبد الرزَّاق في مصنَّفه[6]، وقد تقدم في مبحث جُودها أنها كانت صائمة وتُنفق جميعَ ما عندها في أكثرَ مِن قصة.

(جـ) ورع وخشية عائشة رضي الله عنها:
وأما أخبارها في الورع والخشية فكثيرة جدًّا، نذكر بعضًا منها كنموذج، فلا ريب أن الورَع هو اجتناب الشبهات خوفًا من الوقوع في المحرمات، وهو من ثمار المعرفة بالله سبحانه؛ فكلما ازداد العبد معرفة بربه، وقربًا منه زادت خشيتُه منه وزاد ورعه، ولا مراء أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بما هيَّأ الله لها من البيئة الصالحة والنشأة الطيبة؛ كانت على مقام رفيع في المعرفة والخشية والورع.

وفي مُسندها أحاديثُ كثيرة روَتها، وهي تدل على ورعها؛ فمنها حديث منعِها عمَّها من الرضاعة أن يدخل عليها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هو عمُّك فليلِج عليكِ))، ومع ذلك لم تقتنع، فاستفسرت النبيَّ صلى الله عليه وسلم قائلة: إنما أرضعَتني المرأة ولم يُرضعني الرجل، فأكد لها بقوله: ((إنه عمك فلْيَلِج عليك))[7].

طلب منها النبي صلى الله عليه وسلم أن تُناوله الخُمرة (السجَّادة الصغيرة) من المسجد، فقالت: إني حائض، فقال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ حيضتك ليست بيدك))[8].

ومن ورعها رضي الله عنها أنها تحتجب من العُميان؛ دخل عليها رجلٌ أعمى فاحتجبَت عنه، فلما قال لها: تحتجبين مني ولستُ أراك؟! قالت: إن لم تكن تراني فإني أراك[9].

عن أسماء بنت عُميس قالت: "كنتُ صاحبةَ عائشة التي هيَّأتها، فأدخلتُها على النبي صلى الله عليه وسلم في نِسوة، فما وَجدنا عنده قِرًى إلا قدحًا من لبن، فتناوله فشرب منه، ثم ناولَه عائشة، فاستحيَت منه فقلتُ: لا تردِّي يدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذَته فشربَته، ثم قال: ((ناولي صواحبك))، فقلتُ: لا نشتهيه، فقال: ((لا تجمعن كذبًا وجوعًا!))، فقُلن: إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهي؛ أيعدُّ ذلك كذبًا؟ فقال: ((إن الكذب يُكتب كذبًا، حتى الكُذَيبة تُكتب كذيبة))"[10].

عن عائشة قالت: تزوَّجَني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليَّ حُوف، فما هو إلاَّ أن تزوجني حتى ألقى الله عليَّ الحياء، قال: والحوف شيءٌ يصنعه الأعراب على الصِّبيان من سور يُلبسه الأعراب أبناءهم[11].

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنتُ أدخل بيتي الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنِّي واضعٌ ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دُفن عمر معهم فوالله ما دخلتُ إلا وأنا مشدودةٌ عليَّ ثيابي؛ حياءً من عمر رضي الله عنه[12].


[1] انظر: مسند ابن راهويه، دراسة الدكتور عبد الغفور عبد الحق حسن، ط أولى 1991، مكتبة الإيمان.
[2] البخاري (1886)، ومسلم (783)، وأبو داود (1370).
[3] أبو داود (1357)، وأحمد (6/ 249) (26167)، وصححه الألباني. انظر صحيح الترغيب (632).
[4] رواه أحمد (6/ 138)، والنسائي في الكبرى (482)، ومالك في الموطأ (1/ 173) رقم (358)، وعبد الرزاق (2866).
[5] موطأ مالك (2/ 191) رقم (368)، وأحمد (6/ 128) رقم (25014).
[6] مصنف عبد الرزاق (2/ 561) (4461)، ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 380) 8980).
[7] البخاري (2501) (4518) (4941)، ومسلم (1445).
[8] مسلم (298) (299)، وأبو داود (261)، والترمذي (134)، والنسائي (1/ 156).
[9] رواه ابن سعد في الطبقات (8/ 69)، وصححه ابن عبد البر، وقد أخرجه الإمام مالك في موطئه، وعزاه الحافظ في التلخيص الحبير (3/ 148، 149).
[10] رواه الطبراني في الكبير (22/ 26)، والحميدي (1/ 179) رقم (367).
[11] الطبراني في معجمه الكبير 23/ 121، ح:154 أبي يعلى في مسنده 8/ 244، والحميدي في مسنده 1/ 114 حديث رقم: 232.
[12] أخرجه الحاكم في مستدركه 3/ 64، حديث 4402 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وسكت الذهبي، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح.

إرسال تعليق

 
Top