0

شبهة مخالفة عائشةَ رضي الله عنها لآية

﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ



فقد زعمَت الشيعةُ أنَّ عائشة رضي الله عنها خالفَت أمر ربِّها بلزوم بيتها في قوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33].

والجواب على هذا الادِّعاء:
أولًا: ليس المقصودُ من الآية النهيَ عن الخروج مطلقًا؛ إذ لو كان الله يريد لهنَّ عدم الخروج مطلقًا لما نهاهنَّ عن التبرُّج؛ إذ إن تبرُّجها في بيتها لا حرج فيه، فدل ذلك على أن خروج المرأة من بيتها للمصلحة جائزٌ بشرطِ عدم التبرج.

قال قتادةُ: ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]؛ أي: إذا خرجتُنَّ من بيوتكن، وقال: "كانت لهنَّ مِشية وتكسُّرٌ وتغنُّج، يعني بذلك الجاهليَّةَ الأولى، فنهاهنَّ الله عن ذلك"[1].

فالآية أمرٌ من الله لجميع النِّساء بملازمةِ البيوت، لكن هذا لا يَعني أنه محرَّم عليها الخروجُ للمصلحة، وسيأتي بيانُ ذلك.

ثانيًا: وردَ في كلام الشيعة ما يدلُّ على جواز خروج المرأة، وإليك بعض هذا النُّقول:
قال المفيد: "على المرأة الحرةِ المسلمة أن تستتر في بيتها، وتلزمَه، ولا تخرج منه إلا في حقٍّ تقتضيه، ولا تتبرَّج في خروجها منه"[2].

وقال الطبرسي: "أمَرهن بالاستقرار في بيوتهن، والمعنى: اثبُتن في منازلكن، والزَمنها، ﴿ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]؛ أي: لا تَخرجن على عادة النساء اللاتي في الجاهليَّة، ولا تُظهِرن زينتكن كما كنَّ يُظهرن ذلك، وقيل: التبرج: التبختُر والتكسُّر في المشي"[3].

ويتَّضح من هذه التفاسير وغيرها ما يلي:
(1) أن الآية عامةٌ لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ولغيرهن.
(2) أنه لا مانعَ من الخروج للمصلحة؛ بشرط عدم التبرج.

ثالثًا: بناء على ذلك يتَّضح أنَّ خروج المرأة للمصلحة جائزٌ؛ كخروجها للحج مثلًا، أو خروجها لقضاء حوائجها مما تقتضيه المصلحة، وهو غير مخالف للآية، وليس فيه معصية، ومعلومٌ أن خروج عائشة رضي الله عنها كان لمصلحة المسلمين، ولجمع كلِمَتهم، ولما كانت ترجو من أن يرفع الله بها الخلافَ بين المسلمين لمكانتها عندهم، ولم يكن هذا رأيَها وحدها.

بل كان هذا هو رأي بعض مَن كان حولها من الصحابة الذين أشاروا عليها بذلك.

يقول ابنُ العربي رحمه الله: "وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجَت لحرب، ولكن تعلَّق الناس بها وشكَوا إليها ما صاروا إليه من عظم الفتنة وتهارُج الناس، ورجَوا بركَتَها في الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفَت للخلق، وظنَّت هي ذلك، فخرجَت مقتديةً بالله في قوله: ﴿ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114]، وبقوله: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ﴾ [الحجرات: 9]، والأمر بالإصلاح مخاطَبٌ به جميعُ الناس؛ من ذكر أو أنثى، حرٍّ أو عبد..."[4].

وقد صرَّحَت عائشةُ نفسُها بأن هذا هو سببُ خروجها، كما ثبتَ ذلك عنها في أكثرَ من مناسبة وفي غيرِ ما رواية.

فروى الطبريُّ أنَّ عثمان بن حنيف رضي الله عنه وهو والي البصرة من قِبَل علي بن أبي طالب رحمه الله أرسل إلى عائشة رضي الله عنها عند قدومها البصرةَ من يسألها عن سبب قدومها، فقالت: "والله ما مِثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يغطِّي لبنيه الخبر؛ إنَّ الغوغاء من أهل الأمصار، ونُزَّاع القبائل، غزَوا حرمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدثوا فيه الأحداث، وآوَوا فيه المُحدِثين، واستوجَبوا فيه لعنةَ الله ولعنة رسوله، مع ما نالوا من قتلِ إمام المسلمين بلا تِرَةٍ ولا عذرٍ، فاستحلُّوا الدم الحرام فسفَكوه، وانتهَبوا المال الحرام، وأحلُّوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزَّقوا الأعراض والجلود، وأقاموا في دار قومٍ كانوا كارهين لمقامهم، ضارِّين مضرِّين غيرَ نافعين ولا متَّقين، ولا يَقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجتُ في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناسُ وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأتُ: ﴿ لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [النساء: 114].

فنهَض في الإصلاح - ممن أمر الله عز وجل، وأمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - الصغيرُ والكبير، والذكَرُ والأنثى، فهذا شأنُنا إلى معروفٍ نأمرُكم به ونحضُّكم عليه، ومنكرٍ نَنهاكم عنه ونحثُّكم على تغييره"[5].

وروى ابنُ حبان أنَّ عائشة رضي الله عنها كتبَت إلى أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه وإلى عليٍّ رضي الله عنه على الكوفة: "فإنَّه قد كان مِن قتل عثمان ما قد علمتَ، وقد خرجتُ مُصلحةً بين الناس، فمُر مَن قِبلَك بالقرار في منازلهم، والرِّضا بالعافية حتَّى يأتيهم ما يحبُّون من صلاحِ أمر المسلمين"[6].

ولما أرسل عليٌّ القعقاعَ بن عمرو لعائشةَ ومَن كان معها يَسألُها عن سبب قدومها، دخل عليها القعقاعُ فسلَّم عليها، وقال: "أيْ أمَّه، ما أشخصَك وما أقدمَكِ هذه البلدةَ؟" قالت: "أي بنيَّ، إصلاحٌ بين الناس"[7].

وبعد انتهاء الحرب يومَ الجمل جاء عليٌّ إلى عائشة رضي الله عنها فقال لها: "غفَر الله لكِ"، قالت: "ولكَ؛ ما أردتُ إلا الإصلاح"[8].

فتقرَّر أنها ما خرجَت إلا للإصلاح بين المسلمين، وهذا سَفرُ طاعة لا يُنافي ما أُمرَت به من عدم الخروج من بيتها، كغيرِه من الأسفار الأخرى التي فيها طاعةُ الله ورسولِه كالحجِّ والعمرة.

عن قيسِ بن أبي حازم قال: لما بلغَت عائشةُ رضي الله عنها بعضَ ديار بني عامر نبحَت عليها الكلاب، فقالت: "أي ماء هذا؟" قالوا: الحوأب، قالت: "ما أظنني إلا راجعة"، فقال الزبير: لا بعدُ، تَقدَمين ويراكِ الناس يُصلِح الله ذاتَ بينهم، قالت: ما أظنني إلا راجعة؛ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كيف بإحداكنَّ إذا نبحَتها كلابُ الحوأب؟!))[9].

قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله في الرد على الرافضة في هذه المسألة: "فهي رضي الله عنها لم تتبرَّج تبرج الجاهلية الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا يُنافي الخروجَ لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجَت للحج والعمرة، أو خرجَت مع زوجها في سفره، فإنَّ هذه الآية قد نزلَت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد سافر بهنَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة رضي الله عنها وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردَفها خلفه، وأعمرَها من التنعيم، وحجةُ الوداع كانت قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأقلَّ من ثلاثة أشهر بعد نزول هذه الآية؛ ولهذا كان أزواجُ النبي صلى الله عليه وسلم يحجُجن كما كنَّ يحججن معه في خلاقة عمر رضي الله عنه وغيرِه، وكان عمرُ يوكل بقطارهن عثمان، أو عبد الرحمن بنَ عوف، وإذا كان سفرُهن لمصلحة جائزًا، فعائشةُ اعتقدَت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين، فتأوَّلَت في ذلك"[10].

رابعًا: وإذا كان الرافضة يتَّهِمون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمجرد خروجها، فإن هذا الحكم ينجري على فاطمةَ بنتِ رسول الله رضي الله عنها، فاسمع الآن إلى ما ورد في كتب القوم ممَّا يسمى بـ(الخُطبة الفدكيَّة).

"روى عبد الله بنُ الحسين عليه السلام بإسناده عن آبائه عليهم السلام أنه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة عليها السلام فدَكَ، وبلغَها ذلك، لاثَت خمارها على رأسها، واشتملَت بجلبابها، وأقبلَت في لمَّة من حفَدتِها ونساء قومها، تطَأُ ذيولها، ما تَخرم مشيتُها مشيةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى دخلَت على أبي بكر، وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثم انكفأَت عليها السلام، وأمير المؤمنين عليه السلام يتوقع رجوعها، ويتطلع طلوعها عليه".

فلننظر الآن ماذا تقولون في خروج فاطمة من بيتها؟ ولماذا لم يَخرج معها عليٌّ رضي الله عنه؟ فخرجَت في مجموعة نساء، علمًا بأن عائشة خرجَت ومعها ابن اختها عبد الله بن الزبير مَحرمًا لها.

والعجيب أن أحد أئمَّة الشيعة الكبار وهو محمد بن حسين آل كاشف الغطاء، يصِفُها بأن فاطمة خرجَت عن حدود الأدب، فقال: "وكانت ثائرةً متأثرة، حتى خرجَت عن حدود الأدب التي لم تَخرج من حظيرتها مدةَ عمرها"[11]!

خامسًا: وماذا تقولون عن خروج نساء الحسين وبناته وأخواته معه في حربه مع يزيدَ بنِ معاوية، ولماذا لم يَقررن في بيوتهن، وكيف وافق الحسين رضي الله عنه على خروجِهن معه؟


[1] تفسير الطبري (10 / 294).
[2] أحكام النساء للمفيد (ص55 - 56).
[3] تفسير البيان للطبرسي (8 / 155).
[4] أحكام القرآن (3 / 596).
[5] تاريخ الطبري (4 / 462).
[6] الثقات لابن حبان (2 / 282).
[7] تاريخ الطبري (4/ 488)، والبداية والنهاية (7/ 248).
[8] نقله ابن العماد في شذرات الذهب (1/ 42).
[9] رواه الحاكم (2/ 139)، وسكت عنه هو والذهبي، وابن حبان (4613)، وأحمد (353). وصححه الألباني في "الصحيحة" (474).
[10] منهاج السنة النبوية (4/ 317 - 318).
[11] جنة المأوى (ص135).

إرسال تعليق

 
Top