0

الرد على شبهة موقف عائشة من مقتل عثمان رضي الله عنهما


معلومٌ أنَّ عائشة رضي الله عنها تُجلُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من فضلِ الله عليها أن حفِظَت لنا من سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثيرَ من فضائل الصحابة رضي الله عنهم.

فكما تقدَّم من مروياتها لفضائل عليٍّ وفاطمةَ وخديجةَ والحسنِ والحسين رضي الله عنهم، فهي كذلك تَروي أيضًا ما يدل على مكانةِ عثمان رضي الله عنه عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فعن عائشة رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في شأنِ عثمان: ((ألا أستَحي من رجل تستحي منه الملائكة) [1].

وقد أوردَ الشيعة شبهةً أن عائشة رضي الله عنها كانت تُنادي بقتل عثمان.

فقد روى ابنُ أبي الحديد في شرحه لنَهج البلاغة أنَّها قالت: "اقتلوا نعثلاً؛ فقد كفَر"[2].

ونعثل: رجلٌ يهودي كان يعيش بالمدينة، وقيل: نعثل معناه الشيخ الأحمق، وهو رجلٌ من أهل مصر كان يُشبِه عثمانَ[3].

والجواب:
أولاً: أنَّ هذا القول كذبٌ، ويَكفي أنها من رواية سيف بن عمر، قال يحيى بن معين وابن أبي حاتم: ضعيفُ الحديث، وقال النَّسائي: كذَّاب، وقال ابن حبَّان: يَروي الموضوعاتِ عن الأثباتِ، وقالوا: إنه كان يضعُ الحديث، وقال الدارقطنيُّ: متروك الحديث، يشبه حديثُه حديث الواقدي، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال ابن عدي: عامةُ حديثه منكر[4].

والروايات الأخرى التي يدَّعيها الشيعة، ويَنسبون إليها هذا القول، رواياتٌ باطلة أيضًا.

ففيها نصرُ بن مُزاحم: قال العقيليُّ: كان يَذهب إلى التشيُّع، وفي حديثِه اضطرابٌ وخطأٌ كثير، وقال الذهبي: رافضيٌّ جلَد، ترَكوه، وقال أبو خيثمة: كذَّاب، وقال أبو حاتم: واهي الحديث، متروكٌ، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال الجوزجانيُّ: كان نصرٌ زائغًا، عن الحقِّ مائلاً، وقال صالحُ بن محمد: نصرُ بن مُزاحِمٍ يروي عن الضعفاء أحاديثَ مناكير، وقال الحافظ محمد بن الحسين: نصرُ بن مزاحم غالٍ في مذهبه[5].

ثانيًا: لا يُعرف أنَّ عائشة رضي الله عنها كان تسمِّي عثمان "نعثلاً"، وأما الذي سمَّاه بهذا جبَلة بن عمرو الساعديُّ كما ذكر ذلك الطبريُّ في تاريخه[6]، وبقيَت هذه الكلمةُ مع الذين تآمروا عليه حتى قتَلوه رضي الله عنه، وقد كانت عائشةُ رضي الله عنها في هذه الأوقات بمكةَ تؤدي مناسك الحج؛ مما يدل على كذب هذه الرواية عنها.

تنبيه مهم:
افتتَن الشيعةُ بمرويَّاتهم التي يدَّعون فيها أن عائشة رضي الله عنها أمرَت بقتل عثمان، وحرَّضَت الناس على ذلك، فلما قتَلوه كانت تظنُّ أن أمر الخلافة سيكون إمَّا لطلحةَ، أو للزبير، لكن جاءها الخبرُ أنَّ الناس قد اجتمَعوا على عليٍّ، فعندئذٍ تغيَّر موقفها، وقالت: لأطلبنَّ بدم عثمان، وسارت إلى البصرة، وتسبَّبت في نار الفتنة، وكل هذه الروايات باطلةٌ لا تصح.

وقد يضخِّم الشيعة موقفَهم، فيقولون: إنَّ هذه المرويَّات قد رواها أهل السنة في كتبهم كالطبري في تاريخه، وابن الأثير في "الكامل في التاريخ"، و"تذكرة الخواص" لابن الجوزيِّ، و"الإمامة والسياسة" لابن قتيبة، وغيرها من الكتب التي تسرد التاريخ كروايات، لكنهم لا يحقِّقون هذه الروايات، وهم يَنقُلون أخبارًا بأسانيدهم.

ومعلومٌ أن هذا لا يَكفي في التثبُّت للأخبار؛ ولذا برَع أهل السنة بعلم الجَرح والتعديل لتحقيق الأحاديث والآثار، فلا تغترَّ أخي القارئ حتى لو ذكَروا لك آلافَ المصادر حتَّى تَعلم صحة الأسانيد، والشيعةُ لا علم لهم بعِلم الجَرح والتعديل؛ فهذا مما ميز الله عزَّ وجلَّ به أهل السُّنة، ليأخذوا الجيِّد، ويتركوا الزَّيف، أما الشيعة فإنهم يَأخذون الغثَّ أكثرَ من غيره؛ لعدم علمهم بهذا العلم.

ثالثًا: موقف أم المؤمنين واضحٌ أشدَّ الوضوح.
فمعلومٌ أن عائشة رضي الله عنها أولُ من أنكر قتلَ عثمانَ كما ذكرَت مرويَّاتها رضي الله عنها.

وقد بيَّن ذلك أيضًا بجلاءٍ شيخُ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله في رده على ابن المطهر.

وأمَّا ما ذكَره أن القصة مذكورةٌ في كتب أهل السنة، فإنهم إنما يَذكرون الكتب التي لا تهتمُّ بجَرح ولا تعديل، وإنَّما شأنها سياقُ الروايات بالأسانيد أو بدونها؛ فمثلاً: ذُكرت القصَّة في "الكامل" لابن الأثير، ولم يَذكر لها إسنادًا، وذُكرت في "تاريخ الطبري" بإسناد فيه ثلاثةُ مجاهيلَ، ويقول في آخِر الإسناد: عمَّن أدرك مِن أهل العلم، فهذا مجهولُ العين أيضًا فكيف يدَّعي الشيعةُ أن هذا موجودٌ عند أهل السنة.

رابعًا: بل إنَّها رضي الله عنها حزِنَت على قلته أشدَّ الحزن.
(1) عن أبي خالد الوالبيِّ أن عائشة رضي الله عنها قالت: "استَنابوه حتى ترَكوه كالثوب الرَّخيص ثم قتَلوه"[7].

(2) عن عونِ بن عبد الله قالت عائشةُ رضي الله عنها: "غضبتُ لكم من السوط، ولا أغضب لعثمانَ من السيف، استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقلب المصفى قتلتموه "[8].

(3) عن محمدِ بن سيرين قال: قالت عائشةُ رضي الله عنها: "مُصتم الرجل مَوص الإناء، ثم قتلتُموه"[9].

(4) وعن عبد الله بن شفيق، عن عائشة قالت: "مُصتُموه مَوص الإناء، ثم قتَلتموه"؛ يعني عثمان[10].

(5) عن مسروق، عن عائشةَ قالت حين قُتل عثمان: "ترَكتموه كالثوب النقيِّ من الدنس، ثم قربتموه تذبحونه كما يُذبح الشاة"! فقال لها مسروقٌ: هذا عملك، أنت كتبتِ إلى الناس تأمُرينهم بالخروج إليه، قالت عائشة: "لا، والذي آمن به المؤمنون، وكفَر به الكافرون، ما كتبتُ إليهم بسوداءَ في بيضاء حتى جلستُ مجلسي هذا".

قال الأعمش: فكانوا يرَون أنه كُتب على لسانها[11].

وعنها أنه كانت تقولُ - أي: في مقتل عثمان -: "ليتَني كنت نسيًا منسيًّا، فأما الذي كان مِن شأن عثمان، فوالله ما أحببتُ أن يُنتهك من عثمان أمرٌ قط إلا انتُهك منِّي مثله، حتى لو أحببتُ قتله قُتلت"[12].

ورَوى ابنُ أبي شيبة عن طَلقِ بن حسَّان قال: قلتُ لعائشة: فيم قُتل أمير المؤمنين عثمان؟ قالت: قُتل مظلومًا، لعَن الله مَن قتله[13].

وعن سالم بن أبي الجعدِ قال: كنَّا مع أبي حنيفةَ في الشِّعب فسَمع رجلاً ينتقِص من عثمانَ وعندَه ابنُ عباس، فقال: يا ابن عباس، هل سمعتَ أمير المؤمنين عشيَّة سمع الضجَّة من قبيل المربد، فبعَث فلانَ بن فلان، فقال: اذهب فانظُر ما هذا الصَّوت؟ فجاء فقال: هذه عائشة تَلعن قتَلة عثمان والناسُ يؤمِّنون، قال عليٌّ: وأنا ألعن قتَلة عثمانَ في السهل والجبل"[14].

خامسًا: نَقول للشيعة: ومتى كان يهمُّكم أمر عثمان حتى تعُدُّوا الطعنَ فيه منقصةً؟ ومتى كنتُم تَغضبون لعثمان؟ فعائشة وعثمان عندكم سواءُ تكفِّرونهما وتَلعنونهما، فما معنى كلامكم إلا الجدالُ العقيم؟!

قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله: "إنَّ هذا المنقولَ عن عائشةَ في القدح في عثمان، إن كان صحيحًا، فإما أن يكون صوابًا، وإما أن يكون خطأً، فإن كان صوابًا لم يُذكَر في مساوئ عائشة، وإن كان خطأً لم يُذكر في مساوئ عثمان، والجمع بين نقص عائشة وعثمان باطل قطعًا"[15].

سادسًا: قال ابن تيميَّة: "هب أنَّ واحدًا من الصحابة - عائشةَ رضي الله عنها أو غيرَها - قال مثلَ ذلك الكلام على وجه الغضبِ؛ لإنكاره بعضَ ما يُنكَر، فليس قوله حجة، ولا يقدح ذلك في إيمان القائل، ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما وليًّا لله تعالى من أهل الجنة، ويظنُّ أحدهما جواز قتل الآخر، بل يظنُّ كفره، وهو مخطئٌ في هذا الظن"[16].


[1] مسلم (2401)، وأحمد (6/ 167).
[2] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (4 / 458).
[3] لسان العرب 11/ 670.
[4] انظر "ميزان الاعتدال" (2/ 255)، و"المغني في الضعفاء" (1/ 392)، و"تهذيب التهذيب" (4/ 296)، و"الجرح والتعديل" (4/ 278).
[5] انظر: "الضعفاء" للعقيلي (4/ 300)، و"ميزان الاعتدال" (4/ 253)، "تاريخ بغداد" (13/ 283).
[6] "تاريخ الطبري" (4/ 365).
[7] رواه خليفةُ بن خياط في "تاريخه" (ص175)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (495)، وإسناده حسن لغيره؛ ففي إسناده أبو خالد الوالبي: هُرمُز، وقيل: هرَم: مقبول، لكن لخبره شواهد كما سيأتي.
[8] رواه خليفة بن خياط في "تاريخه" (ص175)، وعنه ابن عساكر (494)، ورجاله ثقاتٌ غير أنه مرسَل (منقطعٌ بين عونِ بن عبيد الله وعائشة)، لكنه يتقوَّى بالإسناد السابق كما تقدم.
[9] رواه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 82 - 83)، وخليفة في "تاريخه" (ص176)، وابن عساكر (495)، وإسناده منقطع بين ابن سيرين وعائشة.
[10] رواه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 28)، وإسناده حسن.
[11] رواه ابن سعد (3/ 82)، وخليفة في "تاريخه" (176)، وابن عساكر (496)، والإسناد صحيح.
[12] مصنف عبد الرزاق (11/ 447)، والمتمنين لابن أبي الدنيا (1/ 69)، وفضائل الصحابة لأحمد (750).
[13]رواه الطبراني في الكبير (1/ 88)، وفي "مجابي الدعوة" لابن أبي الدنيا (54)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 116): رجاله رجال الصحيح، غير طلق، وهو ثقة.
[14] رواه سعد بن منصور (2942)، وأحمد في فضائل الصحابة (732).
[15] منهاج السنة (4/ 335).
[16] المصدر السابق (4/ 330).

إرسال تعليق

 
Top