0

فوائد متعلقة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها

من قصة الإفك[1]


ظهور قوَّة إيمانها رضي الله عنها، ومعرفتها بربها، ويظهر ذلك في الآتي:
أولًا: لم تتكلَّم رضي الله عنها بكلام فيه تسخُّط أو فُحش مع شدَّة المحنة، بل قالت: "سبحان الله! أوَتكلم الناس بهذا؟!"، وفي رواية ابن إسحاق أنها قالت لأمِّها: "غفر الله لك، يتحدَّث الناس بهذا ولا تذكرين لي؟!".
قال ابن حجر رحمه الله: استغاثَت بالله متعجبةً من وقوع مثل ذلك في حقِّها، مع براءتها المحقَّقة عندها.

ثانيًا: استحضار القرآن في حديثها؛ ففي الوقت الذي نَسيَت فيه اسم (يعقوب) وذكرَته بأبي يوسف، مع ذلك كانت مستحضرةً للقرآن، فقالت: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].

ثالثًا: إفراد الله بالحمد، وتوليتها النِّعمة لربها:
قال ابن القيِّم رحمه الله: "ومن تأمَّل قول الصديقة، وقد نزلَت براءتها فقال لها أبواها: قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: "والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله"، علِمَ معرفتها، وقوة إيمانها، وتوليتها النعمة لربها، وإفراده بالحمد في ذلك المقام وتجريدها التوحيد"[2].
♦ ♦ ♦

إدلالها ببراءتها، وإعطاء كل مقام حقَّه:
وذلك أيضًا في قولها: "والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله"، فدلَّ ذلك كما يقول ابن القيم على "قوة جأشها، وإدلالها ببراءة ساحتِها، وأنها لم تفعل ما يوجب قيامها في مقام الراغب في الصُّلح، الطالب له، وثقتها بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها؛ قالت ما قالت، إدلالًا للحبيب على حبيبه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي هو أحسنُ مقامات الإدلال، فوضعته موضعَه"[3].

وقال ابن الجوزي: "إنما قالت ذلك إدلالًا، كما يُدِلُّ الحبيب على حبيبه"[4].

ثباتها ورزانتها:
وذلك بإدخال أسباب الحب إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، فهو يحب أن يرى زوجته في كمال معرفتها بربها وتوحيدها له؛ لذا قال ابن القيم: "والله ما كان أحبها إليه حين قالت: "لا أحمد إلا الله؛ فإنه هو الذي أنزل براءتي"، ولله ذلك الثبات والرَّازنة منها، وهو أحبُّ شيء إليها، ولا صبرَ لها عنه، وقد تنكر قلب حبيبها لها شهرًا، ثم صادفت الرِّضى منه والإقبال، فلم تبادر إلى القيام إليه، والسرور برضاه وقربه مع شدة محبتها له، وهذا غاية الثبات والقوة"[5].
♦  ♦  ♦

فطنة أمها أم رومان رضي الله عنها وحُسن تربيتها:
وهذا يدلنا على أن عائشة تخرَّجَت في بيتٍ معروف بالأدب والرزانة، لا الفحش والطيش؛ فإن عائشة رضي الله عنها لما ذهبت إليها تسألها عما يتكلم به الناس قالت: "يا بنيَّة، هوِّني عليك؛ فما من امرأة وضيئة لها ضرائرُ إلا أكثَرن عليها"، وفي رواية: "لقلَّما أحب رجلٌ امرأته إلا قالوا لها مثل ذلك"، وفي رواية: "إلا حسَدنها وقيلَ فيها".

وقال الحافظ رحمه الله: "وفي هذا الكلام من فِطنة أمِّها، وحسن تأدُّبها في تربيتها ما لا مَزيد عليه؛ فإنها علمت أن ذلك يعظم عليها، فهوَّنَت عليها الأمر بإعلامها بأنها لم تنفرِد بذلك؛ لأن المرء يتأسى بغيره فيما يقع له، وأدمجَت في ذلك ما تطيِّب به خاطرها من أنها فائقةٌ في الجمال والحظوة، وذلك ما يعجب المرأةَ أن توصَف به، مع ما فيه من الإشارة إلى ما وقَع مِن حَمنة بنت جحش وأن الحاملَ لها على ذلك كونُ عائشة ضرةَ أختِها زينب بنت جحش"[6].

قلتُ: وقد أكدَت كلامها باليمين، وفيه التأكيد لما تقوله[7].
♦   ♦   ♦

سمو بيت النبوة:
إذ إن أزواجه صلى الله عليه وسلم لم يقَعن في الفرية، مع أنَّهن ضرائرُ لها، وبينهن من الغيرة ما هو من طبيعة النساء، وقد قالت أمُّ عائشة لها: "والله ما كانت امرأةٌ وضيئة عند رجل يحبُّها ولها ضرائرُ إلا أكثَرن عليها".

قال ابن أبي جَمرة: "لأنَّ العادة جاريةٌ بأن المرأة إذا كان فيها أحدُ هذه الثلاث أكثرَ النساءُ الكلام فيها، فكيف بمجموعها؟!"[8].

قلت: هذه الثلاثة تحقَّقت في عائشة: وَضاءتها، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم لها، ووجود ضرائر، ومع ذلك لم تتكلَّم واحدةٌ من نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالفِرية، وعلى هذا فيُحمل كلام أمِّ عائشة: "أكثَرن عليها" على أنَّ المراد به: أكثرَ عليها بعضُ نساء ذلك الزمان؛ إشارةً منها إلى ما وقع من حمنة بنت جحش رضي الله عنها من أجلِ أختها زينبَ رضي الله عنها.

اعتناء عائشة بسلامة الناس مع الوقوع في الإثم:
في سبب ذِكر عائشة للحديث مع أنَّ القرآن نزل ببراءتها؛ لأن القرآن قد دفَع التهمة عنها، لكن بقي أنَّ هناك بعضَ النفوس السوء تتشوَّف لمعرفةِ سبب ذلك، وربَّما وقع في ذلك مفسدةٌ وعونٌ للشيطان على المؤمنين، فاحتاج الأمر إلى بيان؛ كي تراعي حقَّ المؤمنين فتَنفي عنهم كلَّ ما يضرُّهم، فأراحَت بذلك رضي الله عنها المسلمين من هذه المصيبة الكبرى التي حلَّت بهم، وتركَت الأجر لنفسها؛ لأنها مهما تُكلم فيها كان لها في ذلك أجر.

قال الحافظ في ذكر الفوائد: "إن الاعتناء بالسلامة من وقوع الغير في الإثم أولى من تركه يقع في الإثم، لتحصيل الأجر للموقوع فيه"[9].

فصاحة عائشة وبلاغتها رضي الله عنها:
لأنها قالت في بداية الحديث: "فخرجت معه بعدما أنزل الحجاب"، "فكان كلامها ذلك توطئةً للسبب في كونها كانت مستترة في الهودج حتى أفضى ذلك إلى تحميله وهي ليسَت فيه، وهم يظنون أنها فيه، بخلاف قبل الحجاب، فلعل النساء حينئذٍ كنَّ يركبن ظهور الرواحل بغير هودج، أو يركبن الهوادج غير مستترات، فما كان يقع لها الذي يقع، بل كان يَعرف الذي كان يخدُم بعيرها إن كانت ركبَت أم لا"[10].

قال ابن جمرة: "وهو الفصيح في الكلام، إذا احتاج المرء إلى ذِكر شيء أتى في أوله بكلام يوطِّئ له بيان ما يريد ابتداءً"[11].

ومن فصاحتها أنها بيَّنَت أن العادة كانت مستصحبة في كل سفرهم من أن هناك من هو مسؤولٌ عن حمل الهودج وإنزاله، حتى فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوته، ثم ذكرَت الرجوع، (وقفل) ثم ذكرَت دنوَّهم من المدينة: "ودنَونا من المدينة"، ثم وقع الذي وقع.

وأقول: لو كانت هناك ريبةٌ لظهَرَت بعضُ أماراتها طول هذه المدَّة، وهذه المسافة في الذهاب والرجوع.

ومن فصاحتها: أنها بيَّنَت العذر الذي جعَل مَن يحملُ الهودج يظنُّ أنَّها فيه؛ لأنها قالت: "وكان النساء إذْ ذاك خفافًا لم يَثقلن، ولم يغشَهن اللحم، وإنما يأكلن العُلقةَ من الطعام... إلخ".

ومن فصاحتها: أنَّها لما ذكرت خفَّتَها، برَّأت نفسها مما قد تُشان به المرأة؛ لأنَّ الهُزال في المرأة قد يكون عيبًا، فأزالت ما قد ينسب إليها من ذلك أنَّها لم تكن وحدها، فهو عام في جميع النساء، فقالت: "وكانت النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقُلن، ولم يغشَهن اللحم"، ثم أبدَت عذرها وعُذر النِّساء بذلك أنَّه بسبب قلَّة الأكل، وأن ما كنَّ عليه ليس بخِلقة خلقن عليها.

ومن فصاحتها: أن ذكرَت أنها كانت صغيرة السن لتبين عذرها فيما فعلَت؛ لكونها اشتغلَت بطلَب العِقد، وتركَتِ القوم حتى رحَلوا، فذكرَت صِغرَ سنِّها؛ لتبين أنها لم تقع لها تجربةٌ بالأمور.

ثبات عائشة مع شدة المحنة:
لنا أن نتصور أولًا شدة الفجيعة على عائشة رضي الله عنها لما سمعت الخبر، حتى إنها اشتدت عليها الحمى؛ كما ورد في حديث ابن عمر قالت: "فأخذتني الحمَّى، وتقلص ما كان مني"؛ أي: إنه ذهب عنها حاجتُها، كما جاء في بعض الروايات، في رواية ابن أويس، فذهب عني ما كنت أجد من الغائط، وفي رواية هشام بن عروة في البخاري: "رجعَت كأن الذي خرجَت له لا تجد منه لا قليلًا ولا كثيرًا".

وأيضًا: بعدما استيقنت الخبر لم تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، وفي المغازي لابن إسحاق: "فخرجَت مغشيًّا عليها، فما استفاقت إلا وعليها حمى بنافض".

ومع هذا كله لم نرَ لعائشة أدنى تصرُّفٍ يخالف الشرع، ولم تتكلَّم بكلام سوء، بل على العكس من ذلك، كانت تتكلم بما يدل على ثبات قلبها، وثقتها بربها، وقد تقدَّم مدى استحضارها للقرآن والذِّكر في هذا الموقف الأليم.

استشارة النبي صلى الله عليه وسلم أظهرَت مكانتها عند الصحابة:
فأسامة بن زيد يقول: هم أهلك، ولا نعلم إلا خيرًا، وفي قوله: "هم أهلك" إشارة إلى عفتها ونزاهتها.

والجارية: لم تخبر إلا بخير، وقالت: والله ما علمتُ على عائشة سوءًا، ولم تستنكر من شأنها إلا أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها حتى تأتي الداجنُ فتأكله.

وزينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: أحمي سَمعي وبصري.

ثم موقف الصحابة رضي الله عنهم، فلم يقع في الإفكِ إلا عُصبة (والعصبة من ثلاثة إلى عشرة)، والمشهور أنَّهم ثلاثة من الصحابة عدا المنافق عبد الله بن سلول الذي تولَّى كبره، فلو كانت عائشة سيِّئة السمعة بين الصحابة لكان مِثلُ ذلك مرتعًا ليشيع الكلام في عرضها.


[1] استفدتُ هذه الفوائد من فتح الباري (8/ 452- 482)، وشرح النووي لصحيح مسلم (17/ 103- 117)، وبهجة النفوس لابن أبي جمرة (3/ 39- 73)، وزاد المعاد لابن القيم (3/ 256 - 269)، وقد أشير إلى موضع الفائدة، وقد لا أشير إليها؛ لأنني تصرَّفت في كثير من العبارات.
[2] زاد المعاد (4/ 264)، ط الرسالة.
[3] المصدر السابق.
[4] نقلاً من فتح الباري (8/ 477).
[5] المصدر السابق.
[6] فتح الباري (8/ 467).
[7] انظر: بهجة النفوس لابن أبي جمرة (3/ 55- 56).
[8] بهجة النفوس (3/ 56).
[9] فتح الباري (8/479).
[10] فتح الباري (8/58).
[11] بهجة النفوس (3/43).

إرسال تعليق

 
Top