0

الرد على الشبهات والطعون حول عائشة رضي الله عنها


الردُّ على أكذوبةِ "نصطاد بعضَ شباب قريش":
روى ابنُ أبي شيبة قال: ما قالوا في الجارية تُشوَّف ويُطاف بها.

حدثنا أبو بكر قال: حدثنا وكيع، عن العلاء بن عبد الكريم الياميِّ، عن عمَّار بن عِمران رجلٍ من زيد الله، عن امرأةٍ منهم، عن عائشةَ أنَّها شوَّفَت جاريةً وطافت بها وقالت: لعلَّنا نصطاد بها شبابَ قريش.

حدثنا أبو بكر قال: حدثنا وكيعٌ، قال: حدثنا العلاء بن عبدالكريم، عن عمار بن عمران رجل من زيد الله، عن امرأة منهم، عن عائشة أنَّها شوَّفت جارية وطافَت بها وقالت: لعلَّنا نُصيب بها بعضَ شباب قريش[1].

قلت: هذا حديث ضعيف، في إسناده عمار بن عمران.

قال الذهبيُّ: لا يَصلح حديثُه؛ ذكره البخاري في الضعفاء[2].

وفي "لسان الميزان" لابن حجر العسقلاني: عمار بن عمران الجعفي، عن سويدِ بن غفَلةَ كان بلالٌ يسوِّي مناكبَنا في الصلاة، وعنه الأعمش، وبعضهم يَرويه عن الأعمَش، فقال: عن عمران بن مسلم لا يصحُّ حديثه، ذكرَه في الضعفاء.

فالحديث لا يصحُّ لأكثرَ من علَّة:
(1) في سنده (امرأةٌ منهم) وهي مجهولة.
(2) في سندِه (عمارُ بن عِمران)، حديثُه لا يصحُّ كما تقدَّم سابقًا.

علمًا بأن الحديث وردَ في باب تزيين السلعة للبيع، إذا أرادَت بيعها، فالحديث يتعلَّق ببيع الجارية، وليس للاصطياد والشباب كما تزعم الشِّيعة.

قالوا عن عائشة: أنها جمعت أربعين دينارًا من خيانة[3].

قلتُ: رواه رجب البرسي في كتبهم، وهو مرسَل، فهو أيضًا حديثٌ ضعيف، ولا يوجد في كتب أهل السنة أصل.

الرد على رواية نوم الزبير مع أمَّهات المؤمنين في لحاف واحد:
أخرج البزَّار قال: حدثنا محمدُ بن المثنَّى، وحدثنا الحسن بن يحيى الأرزي قالا: نا إسحاق بن إدريس، قال: نا أبو معاويةَ الضرير، قال: أنا هشامُ بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال: بعثَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ باردة، أو في غَداة باردة، فذهبتُ، ثم جئت ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم معه بعضُ نسائه في لحاف، فطرَح عليَّ طرَف ثوب، أو طرَف الثوب[4]؛ [حديثٌ موضوع].

قال أبو بكر البزَّار: "وهذا الحديثُ لا نعلم رواه إلا الزُّبير، ولا نعلم له غيرَ هذا الإسناد، ولا نعلم أحدًا تابع إسحاقَ بن إدريس على هذه الرواية".

قلتُ: وهذا الحديث كذبٌ موضوع، لا يَشكُّ من تمرَّس بالحديث أنَّ واضعه أراد منه التنقيصَ والتشنيع على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأزواجه أمهات المؤمنين؛ إذ كيف يَستجيز مسلمٌ روايةَ الحديث على هذا اللفظة المستقبَحة: "فأدخلني في لحافه"، ومع النبي صلى الله عليه وسلم - كما زعَم وافترى زورًا وبهتانًا - إحدى زوجاته! فعامَل الله واضعَه بما يستحق.

وواضعُه إسحاق بن إدريس، وهو أبو يعقوب الأسواريُّ البصري، وقد تفرَّد به؛ كما قال أبو بكر البزَّار.

وإسحاقُ - هذا الكذابُ الأشِرُ - يَروي عن همامٍ وأبان وأبي معاوية الضريرِ وسُويدٍ أبي حاتم المناكيرَ والبواطيلَ، مما لا يَرويه سائرُ الثقات الأثبات، قال يحيى بن معين: كذَّاب يضَع الحديث، وقال البخاريُّ: ترَكه الناس، وقال النَّسائي: متروكُ الحديث، وقال أبو زُرعة: واهي الحديث ضعيفُ الحديث، رُوي عن سويد بن إبراهيم وأبي معاويةَ أحاديثُ منكَرة، وقال أبو حاتم الرازيُّ: ضعيفُ الحديث، وقال الدارقطنيُّ: منكر الحديث.

وقال أبو حاتم بن حبَّان في "المجروحين": "إسحاقُ بن إدريس الإسواريُّ، من أهل البصرة، كنيتُه أبو يعقوب، يَروي عن همام بن يحيى، والكوفيِّين، والبصريين، روى عنه: نصرُ بن عليٍّ الجَهضَمي، وأهل البصرة، كان يسرِق الحديث، وكان يحيى بنُ مَعين يرميه بالكذب"[5].

درجة الحديث:
وقال الشيخ الألبانيُّ في بيان حُكم الحديث: موضوع[6].

وقال الهيثمي: رواه البزَّار، وفيه إسحاق بن إدريس وهو متروك[7].

وعلى هذا فلا تغترَّ بتصحيح الحاكم في "مستدرَكِه" للرِّواية (3 / 410)، فهو متساهلٌ في الحكم على الأحاديث.

ادعاؤهم خروجها على الإمام وإشعالَها لنار الفتنة:
تقول الشيعة: ونتساءل عن حرب الجمل التي أشعلَت نارَها أمُّ المؤمنين عائشة؛ إذ كانت هي التي قادتها بنفسها؛ فكيف تخرج أمُّ المؤمنين عائشةُ من بيتها التي أمرَها الله بالاستقرار فيه بقوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]؟! ونسأل: بأيِّ حق استباحَت أمُّ المؤمنين قتالَ خليفة المسلمين عليِّ بن أبي طالب وهو وليُّ كلِّ مؤمن ومؤمنة؟!

ثم يستدلون على ذلك بما رواه البخاريُّ في صحيحه من كتاب الفتن التي تَموج كمَوج البحر قال: لما سار طلحةُ والزبيرُ وعائشة إلى البصرة بعث عليٌّ عمارَ بن ياسر والحسن بنَ علي فقَدِما علينا الكوفةَ، فصَعِدا المنبر، فكان الحسنُ بن عليٍّ فوق المنبر في أعلاه، وقام عمَّار أسفلَ من الحسن، فاجتمعنا إليه فسمعتُ عمارًا يقول: إنَّ عائشة قد سارت إلى البصرة، واللهِ إنها لزوجةُ نبيِّكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم ليعلَم إياه تُطيعون أم هي[8].

كما أخرج البخاريُّ أيضًا في كتاب الشروط، باب ما جاء في بيوت أزواج النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: قام النبيُّ صلى الله عليه وسلم خطيبًا فأشارَ نحو مسكن عائشة، فقال: ((ههنا الفتنة، ههنا الفتنة، ههنا الفتنة؛ من حيث يطلع قرن الشيطان))[9].

وجوابه:
أولًا: القول: إنَّها أشعلَت نار حرب الجمل وقادتها بنفسها... إلخ، فهذا من أظهَرِ الكذب الذي يَعلم فسادَه كلُّ من له اطِّلاعٌ على التأريخ، وأحداث موقعة الجمل؛ وذلك أنَّ هذه المعركة لم تقَع بتدبير أحدٍ من الصحابة؛ لا عليٍّ ولا طلحةَ ولا الزبير ولا عائشة، بل إنَّما وقعَت بغير اختيار منهم ولا إرادةٍ لها، وإنما أنشَب الحربَ بينهم قتَلةُ عثمانَ لما رأوا أنَّ الصحابة رضي الله عنهم أوشكوا على الصلح، كما نَقل ذلك المؤرِّخون وصرَّح به العلماء المحقِّقون للفتنة وأحداثها، ونسوق إليك بعضَ هذه النصوص:
يقول ابنُ العربي: "وقدم عليٌّ البصرة وتدانَوا ليتَراءوا، فلم يَتركهم أصحابُ الأهواء، وبادروا بإراقة الدماء، واشتجَر بينهم الحرب، وكثُرَت الغوغاء على البغواء، كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا تقف الحالُ على بيان، ويَخفى قتلة عثمان، وإنَّ واحدًا في الجيش يفسد تدبيره فكيف بألف؟!"[10].

ويقول ابن حزم: "وأما أمُّ المؤمنين والزبير وطلحة رضي الله عنهم ومَن كان معهم، فما أبطَلوا قطُّ إمامةَ عليٍّ ولا طعَنوا فيها؛ فقد صحَّ صحةً ضرورية لا إشكالَ فيها أنَّهم لم يَمضوا إلى البصرة لحرب عليٍّ ولا خلافًا عليه ولا نَقضًا لبيعته، وبرهانُ ذلك أنَّهم اجتمَعوا ولم يقتَتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرَف قتلةُ عثمانَ أنَّ الإغارة والتدبير عليهم، فبيَّتوا عسكرَ طلحة والزبير، وبذَلوا السيف فيهم، فدفع القومُ عن أنفسهم فردعوا حتى خالطوا عسكر علي، فدفع أهلُه عن أنفسهم، وكلُّ طائفة تظن ولا تشكُّ أن الأخرى بدَأتها بالقتال، فاختلطَ الأمر اختلاطًا لم يَقدر أحدٌ على أكثرَ مِن الدفاع عن نفسه، والفسَقة من قتَلة عثمان لعنَهم الله لا يَفتُرون مِن شبِّ الحرب وإضرامها"[11].

ويقول ابنُ كثير واصفًا الليلةَ التي اصطلَح فيها الفريقانِ من الصَّحابة: "وبات الناسُ بخير ليلة، وبات قتَلةُ عثمانَ بشرِّ ليلة، وباتوا يتَشاورون، وأجمَعوا على أن يُثيروا الحربَ من الغلَس"[12].

ويقول ابن أبي العز الحنفي: "جرَت فتنةُ الجمل على غير اختيار من عليٍّ ولا من طلحةَ والزبير، وإنما أثارها المفسِدون بغير اختيار السابقين"[13].

فهذه أقوالُ العلماء أنَّ القتال الواقعَ من الصحابة لم يكن بتدبير ولا اختيارٍ منهم، بل إنَّهم كانوا كارهين لها، مُؤثِرين الصلحَ على الحرب، ولم يكن لأيِّ أحد من الصحابة أيُّ دور في نُشوبها ولا سعيٍ في إثارتها، لا عائشة رضي الله عنها - كما يزعمون - ولا غيرها، وإنما أوقدَ جذوتَها وأضرم نارَها قتلة عثمان رضي الله عنه.

ثانيًا: مما يدل على أنها لم تَخرج لقتاله ما تقدَّم من أنها أرادت الرجوع؛ لمَّا نبحَت عليها كلابُ الحوأب[14]، فهذا يدل على أنها أرادَت الإصلاح لا الخروج.

ثالثًا: ومما يدل على أنها لم تخرج لقتال عليٍّ والخروج عليه، أن عليًّا رضي الله عنه كان بالمدينة ولم يكن بالعراق، وهي قد خرجَت إلى البصرة، حيث قتَلةُ عثمان، فلو أرادَت القتال لخرجَت إلى المدينة لقِتاله هناك، بدلًا من هذا السفر الطويل.

وملخصًا لما وقع في حرب الجمل وخروج أم المؤمنين عائشة، أنه لما قُتل عثمان رضي الله عنه توجَّع المسلمون، فسار طلحةُ والزبير وعائشةُ نحو البصرة، فلما علم عليٌّ رضي الله عنه بمخرَجهم اعترضهم من المدينة؛ لئلاَّ يحدث ما يشقُّ عصا الإسلام، ففاتوه، وأرسل ابنَه الحسن وعمارًا يستنفر أهل المدينة وأهل الكوفة، ولما قدموا البصرة استَعانوا بأهلها وبيت مالها، حتى إذا جاءهم الإمام رضي الله عنه حاول الصُّلح واجتماع الكلمة وسعى الساعون بذلك، فثار قتلةُ عثمان وكان ما كان، وانتصر عليٌّ رضي الله عنه، وكان قتالهم منِ ارتفاع النهار يومَ الخميس إلى صلاة العصر لعشرٍ خلَون من جمادى الآخرة.

ولما ظهر عليٌّ جاء إلى أمِّ المؤمنين فقال: "غفَر الله لكِ"، قالت: "ولكَ؛ ما أردتُ إلا الإصلاحَ"[15]، ثم أنزلها دارَ عبد الله بن خلف، وهي أعظمُ دار في البصرة على سنيةَ بنت الحارث أمِّ طلحة الطلحات، وزارَها بعد ثلاثٍ ورحَّبَت به وبايعَته وجلس عندها، فقال رجلٌ: يا أميرَ المؤمنين إنَّ بالباب رجلين يَنالان من عائشةَ، فأمر القعاعَ بن عمرو أن يَجلد كلَّ واحد منهما مائةَ جلدة، وأن يجرِّدهما من ثيابهما، ففعل[16].

ولما أرادَت الخروجَ من البصرة، بعث إليها بكلِّ ما يَنبغي من مركبٍ وزاد ومتاع، وأذن لمن نَجا من الجيش أن يَرجع إلا أن يحبَّ المقام، وأرسل معَها أربعينَ امرأةً وسيَّر معها أخاها محمدًا، ولما كان اليومُ الذي ارتحلَت فيه جاء عليٌّ فوقف على الباب في الهودج، فودَّعَت الناس، ودَعَت لهم، وقالت: "يا بَنيَّ، لا يغتَب بعضُكم بعضًا؛ إنه ما كان بيني وبين عليِّ بن أبي طالب في القديم إلا ما يَكون بين المرأةِ وأحمائها، وإنه لمن الأخيار"، فقال عليٌّ: "صدقَت، والله ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها زوجةُ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة"، وسار معها مودِّعًا أميالًا، وسرَّح بنيه معها بقيةَ ذلك اليوم[17].

وكانت رضي الله عنه بعد ذلك إذا ذكرَت ما وقع تبكي حتى تبلَّ خمارها[18].

ففي هذه المعاملةِ من الأمير رضي الله عنه دليلٌ على خلافِ ما تزعمه الشيعة من كُفرها، وحاشاها رضي الله عنها! وفي ندَمِها وبكائها على ما كان - دليلٌ على أنها لم تذهب إلى ربِّها إلا وهي نقيَّة من غبار المعركة، على أنَّ في كلامها ما يدلُّ على أنها كانت حسَنةَ النية في ذلك.

وقال غيرُ واحد: إنَّها اجتهدَت ولكنَّها أخطأَت في الاجتهاد، ولا إثمَ على المجتهد المخطئ، بل أجرُه على اجتهاده، وكونها رضي الله تعالى عنها من أهلِ الاجتهاد مما لا ريبَ فيه.

من مطاعن الشيعة:
تطعن الشِّيعة في أم المؤمنين عائشة، وتزعم أنها ليست بأم المؤمنين!

ويدَّعون أن عائشة كانت ترفض أن يناديها أحدٌ بأم المؤمنين، ويَنقلون من مسند الإمام أحمد، أنَّ امرأةً قالت لها: يا أمَّه، فقالت عائشة: إني لستُ بأمِّكن، ولكني أختُكن[19].

وعن عمرِو بن غالب، قال: دخل عمَّارٌ على عائشة رضي الله عنها يوم الجمل فقال: السلام عليكِ يا أماه، فقالت: لستُ لك بأم... إلخ[20].

وإمعانًا في عدائهم وعداوتهم فإنهم يسمُّونها: "بأم الشُّرور"، أو "أم المجرمين" و"الشيطانة"[21]، وهذه معانَدةٌ لله سبحانه.

والجواب:
أنَّ الذي يَحملهم على انتزاع هذا اللقب عن عائشة رضي الله عنها إنما هي الضَّغينة التي في قلوبهم.
أولًا: هذه المرويات لا تصح؛ فالأول ضعيف كما بيَّن ذلك الهيثميُّ في "مَجمع الزوائد".

ثانيًا: لو صحَّت هذه الرواياتُ - كما في الرواية الثانية - فهذا لا يَعني سلبَ وصفِها بأم المؤمنين؛ لأنها تُحمل على مجاز العلم، فقولها: لستُ بأمكم ولكني أختكم - في الرواية الأولى - محمولٌ على التواضع، وقولها لعمار: "لستُ لك بأم" محمولٌ على شدة الغضب، وهذا قد يَحدث أن يقول الرجل لابنه الذي هو من صُلبه، وكذلك الأم تقول لولدها: لستُ بأمك؛ يعني غَضبًا عليه، ولا ينفي ذلك أنها أمه.

ثالثًا: يكفي في وصفِها بأنها أمُّ المؤمنين أنَّ القرآن وصفَها بذلك، فلا يتعلَّق أحدٌ بهذه الروايات التي لا زِمام لها ولا خِطام، ولكن الآية محكَمة: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]؛ فهي إذًا أم المؤمنين لأنَّ الله شرَّفها بكونِها زوجةَ خير المرسلين صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك فإن عمارًا رضي الله عنه لم يُقرَّها على قولها ذلك، بل جاء في الرواية أن عمارًا قال لها: "بلى، وإن كَرِهت"، فهي إذًا أم المؤمنين؛ رغم أنَّ عائشة قالت: "لا".

رابعًا: أقر عليٌّ عمارًا على وصفِها أنها أمُّ المؤمنين، وأنها زوجةُ النبي صلى الله عليه وسلم في الجنَّة؛ فقد تقدَّم أنه أرسل عمارًا ومعه الحسنُ بن علي إلى أهل الكوفة يستنفِرُهم، فقال عمارٌ: "والله، إني لأعلمُ أنها زوجةُ نبيِّكم في الدنيا والآخرة" فما أنكرَ عليه الحسن، وتكرَّر الأمر في محضرِ عليِّ بن أبي طالب؛ فعندَ أحمد والترمذيِّ والحاكم أنَّ رجلًا تكلم على أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها وعابها، فقال له عمارُ بن ياسر رضي الله عنهما: "ويحك! ما تريد من حبيبةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ما تريد من أم المؤمنين؟! فأنا أَشهد أنها زوجتُه في الجنة"؛ قاله بين يدَي علي[22].

مطعن انتِزاع الخيريَّة منها؛ لقوله تعالى: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ[التحريم: 5][23]:
حاول الروافضُ الطعنَ في أمِّ المؤمنين عائشة، وأم المؤمنين حفصة رضي الله عنهما بهذه الآية الكريمة: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ ﴾ [التحريم: 5]، فهم يريدون بذلك أن يُثبتوا الخيريَّة لغيرهن عليهن، وثانيًا يدَّعون رِدَّتهن؛ لأنَّ قوله: ﴿ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ ﴾ يدلُّ على أنهن ليسَتا مسلماتٍ ولا مؤمنات.

والجواب على ذلك:
أولًا: أنه لم يطلِّقهن، وبالتالي لم يبدِله الله خيرًا منهن، فهل أنتم أعلمُ من الله، وهو الذي يريد لنبيِّه الزوجات الصالحات؟! ولو كانت الخيريةُ في غيرهن لأمرَه الله بفِراقهن، فالجواب جاء لشرط، وهو: (أن يطلِّقهن)، وهذا الشرط لم يتحقَّق، فلم يحدث الإبدال، وإذا لم يبدله الله فهو دليلٌ على أنهن لم يقع منهن نقيصةٌ تقتضي الإبدال، فهو دليلٌ على إيمانهنَّ شئتم أم أبيتم.

فقوله في الآية: ﴿ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ﴾ [التحريم: 5] جاء على سبيل النَّتيجة لشرطٍ، ولم يتحقق ما شرَط له، وهي قوله: ﴿ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ﴾ [التحريم: 5]؛ فهو لم يُطلِّق صلى الله عليه وسلم أزواجَه ليتحقق وجودُ مَن هنَّ خير منهن.

وقد قال غيرُ واحد من مفسري السلف: كلُّ شيء في القرآن "عسى" فهو واجبٌ إلا حرفَين؛ حرفٌ في التحريم: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ ﴾ [التحريم: 5]، وفي بني إسرائيل: ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ﴾ [الإسراء: 8]، والله قادرٌ إن طلَّق عليه الصلاة والسلام أزواجَه أن يَهدِي غيرَهن لفوق ما كُنَّ عليه من الإيمان، كما أنه قادرٌ على أن ييسِّر لهن - وهن أزواجُه - أسبابَ زيادة الإيمان بحيث لا يَفضُلهن أحد.

وغايةُ ما في الآية تجويزُ وجود من هنَّ خير منهن، وفرقٌ بين الجواز أو الإمكان، وبينَ الوقوع، تقول: "إن جئتَني سقيتُك خيرًا من هذا الشراب"، فهَبك لم تأتِ، فهل يُقال عني: إني صنعتُ خيرًا من ذلك الشراب لك؟! أم غاية الأمر إمكانُ ذلك لي، وإن لم أصنعه لك؟

ثانيًا: الآية حجة على الرافضيِّ مثبِتةٌ خيريَّة عائشة - رضي الله تعالى عنها - فإن التفاضل إنما يكون بين المشتركين في الفضل من حيث الأصلُ، فتقول: عليٌّ خيرٌ من الحسين رضي الله عنهما، ولا ثناءَ إذا قلت: عليٌّ رضي الله عنه خيرٌ من أبي جهلٍ أو من فرعونَ، بل هذا قد يقع ذمًّا، فإبدال النبيِّ صلى الله عليه وسلم أزواجًا خيرٌ من كافرتَين عاتيتَين في كفرهما على قول الرافضة ليس فيه تزكيةٌ للأزواج الأبدال، بل هو لذمِّ الأزواج الأبدال أقرب، وقد قالوا:
ألَم ترَ أنَّ السيفَ يَنقُص قدرُه ♦♦♦ إذا قيلَ إن السيفَ أمضى مِن العصا

ثالثًا: معلومٌ من واقعِه صلى الله عليه وسلم أنه ما طلَّقَهن أو استبدلَ بهنَّ رضوان الله عليهن غيرَهن، وقد قال الله تعالى على سبيل المقابَلة في آيات سورة الأحزاب: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29] فلمَّا لم يسرِّحهن وأبقاهن دلَّ ذلك على أنه عَلم من حالهنَّ أنهن يُرِدن الله ورسولَه والدار الآخرة، وأنهن محسناتٌ كلهن أعدَّ الله في الآخرة لهن أجرًا عظيمًا.

رابعًا: النصوص في فضلهنَّ بخصوصهن ولا سيَّما عائشة رضي الله عنها كثيرة جدًّا، وكذلك النصوص في عموم الصحابة التي يندَرِجن فيها، وهي معلومةٌ مشهورة عند أهل السنة، فكيف يُعرضون عنها ويعارضونَها بمجرد فهمٍ سقيم، واحتمالات فرَضها خيالٌ فاسد؟!

خامسًا: مِن جهل الرافضة الناجمِ عن إعراضهم عن آيات الله الاعتقادُ بتكفير عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وقد لبَّس عليهم في الاستدلال لذلك بقوله تعالى: ﴿ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ ﴾ [التحريم: 5] الآية، فزعَموا أن البدلات لمَّا كنَّ مسلمات دل على أن المبدَلات غيرُ مسلمات.

والجواب من وجوه:
(1) ليس في الاستبدال في هذا السياق سلبُ صفة المبدَل عنه أو المستبدَل، بل فيه إثباتها له وإثباتُ خيرٍ منها للمبدل به، يظهر ذلك إذا تأمَّلتَ قوله: ﴿ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ﴾ [التحريم: 5]، فعلى زَعمهم يَلزم نفيُ النقيضينِ عن أمهات المؤمنين؛ فلا هن ثيباتٍ ولا هن أبكارًا!! كما قال: لا هنَّ مسلمات ولا مؤمنات؛ استدلالًا بأول الآية! وقد مضى أن هذا يقتضي إثبات أصل الخير، فيَقتضي إثبات أصل الإسلام والإيمان والتوبة... إلى آخر الصفات المذكورة.

(2) (عسى) هنا - على أصلها - ليست واجبة، والشرط لم يتحقَّق ليقع المشروط فالطلاقُ لم يقَع، والإبدال بالأفضل لم يكُن، ونظير هذا قول الله تعالى: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38]، وقولِه: ﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ﴾ [النساء: 133]، وقوله: ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ ﴾ [الأنعام: 133]، إلى غير ذلك من الآيات في مَعناها، فالتعليق على الشرط لا يفيد تحقُّقَ الشرط ولا المشروط.

(3) ولو كانت الآية نصًّا على كفرهن لانفسَخ نكاحهنَّ بذلك الكفر الذي أتينَه، ولما جاز إبقاؤهن في عصمة مؤمن، فضلًا عن عصمته صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ﴾ [الممتحنة: 10]، وقال: ﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ﴾ [البقرة: 221]، وهذا حكمٌ جاءَت به شريعتُنا، وإنما خصَّ من عموم الكفار أهل الكتاب، فدلَّ إبقاؤهن على أنهن مؤمناتٌ صالحات، وإن وقعت منهن هنَاتٌ استوجبَتِ التسديد ليرجعن إلى العمل الرشيد.

(4) من المتقرِّر عندنا وعند الرافضة الإماميَّة أنَّ اختلاف الدِّين يقعُ به في شريعتنا الفسخ، لا الطلاق، كما قرَّر ذلك محقِّق الرافضة الحلي جعفر بن الحسن الهذلي وغيره، فكيف يستدلُّ بعضهم بقوله: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ﴾ [التحريم: 5] على أنهن قد كفَرن، هل يُعقل ما يقول من يَزعم أن هذا نصٌّ في كفرِهن؟! فلو كنَّ - كما يزعم - كافراتٍ بالنصوص لما احتَجن إلى طلاق؛ لأن نكاحهن منفسخ، فلما ذكر الطَّلاق دل ذلك على أن عَقدهن صحيحٌ وأنهن مسلمات، فلو أوقع الطلاقَ لكان دليلًا على إسلامهن، فكيف به وقد استبقاهنَّ رضي الله عنهن؟!

شُبهة قول عمار: ولكنَّ الله ابتلاكم بها
وأما طَعن الرافضة في أمِّ المؤمنين عائشة بقول عمارٍ: "والله إنَّها لزَوجة نبيِّكم في الدُّنيا والآخرة، ولكنَّ الله تبارك وتعالى ابتَلاكم بها؛ ليَعلم إيَّاه تطيعون أم هي"[24].

فالجواب: أنْ ليس في قول عمارٍ هذا ما يُطعن به على عائشة رضي الله عنها، بل فيه أعظمُ فضيلةٍ لها، وهي أنَّها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، فأيُّ فضل أعظمُ من هذا؟! وأيُّ شرف أسمى من هذا؟! فإن غاية كل مؤمنٍ رضا الله والجنة، وعائشةُ رضي الله عنها قد تحقَّق لها ذلك بشهادةِ عمارٍ رضي الله عنه الذي كان مخالفًا لها في الرَّأي في تلك الفتنة، وأنها ستكونُ في أعلى الدرجات في الجنة بصُحبة زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما شَهِد لها بذلك على نفسِه بعد انتهاء حرب الجمل؛ على ما نقل الطبريُّ أنه جاءها، فأثنت عليه خيرًا وأثنى عليها خيرًا، وكان فيما قال: "أيُّها الناس، صدقَت واللهِ وبرَّت... إنَّها لزوجةُ نبيِّكم في الدنيا والآخرة"[25].

وبهذا قد جاء الحديثُ الصحيح المرفوع إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم على ما روى الحاكمُ في المستدرَك من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها: ((أما ترضَين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة؟))، قالت: بلى والله، قال: ((فأنتِ زوجتي في الدنيا والآخرة))[26].

فيكون هذا الحديث من أعظم فضائل عائشة رضي الله عنها؛ ولذا أورد البخاريُّ الأثر السابقَ عن عمار في مناقبِ عائشة رضي الله عنها[27].

فتبيَّن أنَّ حديث عمار هذا حجةٌ على الرافضيِّ لا له، وأما قول عمار في الجزء الأخير من الأثَر: "ولكنَّ الله ابتلاكم لتتبِعوه أو إيَّاها" فليس بمطعَنٍ على عائشة رضي الله عنها؛ وبيانُ ذلك من عدة وجوه:
الوجه الأول: أن قول عمار هذا يمثِّل رأيه، وعائشةُ رضي الله عنها ترى خِلافَ ذلك وأنَّ ما هي عليه هو الحق، وكلٌّ منهما صحابي جليل، عظيمُ القدر في الدِّين والعلم، فليس قولُ أحدهما حجةً على الآخر.

الوجه الثاني: أن أثَر عمارٍ تضمَّن معنيَين:
أوَّلهما: قوله: "إنها زوجة نبيِّكم في الدنيا والآخرة"، وهذا نص حديث صحيح كما تقدم.

والآخر: قوله: "ولكن الله ابتلاكم بها لتتبعوه أو إياها"، وهذا قول عمار، فإن كان قولُ عمار غيرَ معارض للحديث فلا مطعَن حينئذ، وإن كان معارضًا للحديث، فالحديث هو المقدَّم.

وقصده: مغفور لها خطؤها.

وموقف عليٍّ رضي الله عنه من الحرب دليلٌ على أنه يرى أنها حربُ فتنة؛ ولهذا تمنَّى لو لم يدخُلْها، وأنه مات قبلها بعِشرين سنةً؛ وذلك لاشتِباه الأمور فيها، ولو أنَّه كان يَعتقد في مُخالفيه ما يَعتقده الرافضةُ فيهم مِن الكفر والردَّة عن الإسلام بحربهم لعليٍّ رضي الله عنه، فإنه لو كان يَعتقد فيهم هذا لما ندِمَ على قتالهم ذلك الندمَ العظيم، ولفَرِح بقتلهم وقتالهم كما ثبَت ذلك عنه بعدَ قتالِ الخوارج، مع كونه لا يَعتقد كفرهم! إلا أنه فرح بقتالهم فرحًا عظيمًا، وكبَّر الله سرورًا بقتلهم لما تأكَّد له وصفُهمُ، الذي عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك وجودُ ذي الثُّديَّة فيهم، على ما جاء ذلك مخرجًا في الصحيحين[28].

وفي هذا أكبر ردٍّ على هؤلاء الرافضة، الطاعنين في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، المتَّهِمين لهم بالعظائم.

الوجه الثالث: أنَّ الشهادة بأنها زوجةُ النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، حكمٌ عام باعتبار العاقبةِ والمآل، وقول عمار حكم خاصٌّ في حادثة خاصة، فرجَع الحكم الخاصُّ إلى العام، وآل الأمرُ إلى تلك العاقبةِ السعيدة، فانتفى الطعن.

الوجه الرابع: أنَّ غاية ما في قولِ عمَّار هو مخالفتُها أمرَ الله في تلك الحالةِ الخاصةِ، وليس كلُّ مخالفٍ مذمومًا حتى تقوم عليه الحجةُ بالمخالفة، ويَعلم أنه مخالف، وإلا فهو معذورٌ إن لم يتعمَّدِ المخالفة؛ فقد يكون ناسيًا أو متأوِّلاً فلا يُؤاخَذ بذلك.

الوجه الخامس: أن عمارًا رضي الله عنه ما قصَد بذلك ذمَّ عائشة ولا انتقاصَها، وإنما أراد أن يبيِّن خطأها في الاجتهاد نُصحًا للأمة، وهو مع هذا يَعرف لأمِّ المؤمنين قدرَها وفضلها، وقد جاء في بعضِ روايات هذا الأثر عن عمَّار أن عمارًا سمع رجلًا يسبُّ عائشة، فقال: "اسكت؛ مقبوحًا منبوحًا، والله إنَّها لزوجة نبيِّكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليَعلم أتطيعوه أو إيَّاها".

شبهة: أن عائشة أذاعت سر رسول الله صلى الله عليه وسلم
قالوا: إنَّ عائشة أذاعَت سرَّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [التحريم: 3].

وقد استدلَّ الشيعة بهذه الحادثة على عدة أمور:
منها: أن حفصةَ وعائشة أذاعوا سرَّه؛ "علمًا بأنه وقع اختلاف كبير بين الشيعة عن هذا الحديث المُسَرِّ؛ ما هو؟ ومن الذي أفشاه؟"[29].

ومنها: استدل الشيعة بهذه الآية على كفر عائشة وحفصة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4]، وفسروا معنى "صغت": زاغت، والزيغ الكفر[30].

والجواب على ذلك:
أولًا: قد ثبت في الصحيح أن المقصود في هذه الآية هما عائشة وحفصة أمَّهات المؤمنين رضي الله عنهن.

ففي صحيح البخاري: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلًا عند زينبَ بنتِ جحش، ويمكُث عندها، فواطيتُ أنا وحفصة على أيَّتنا دخل عليها فلتقُل له: أكلتَ مغافير، إني أجد منك ريحَ مغافير، قال: ((لا، ولكني كنتُ أشرب عسلًا عند زينب بنت جحش، فلن أعودَ له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحدًا))[31].

وفي رواية: ((بل شربتُ عسلًا عند زينب بنت جحش، ولن أعود له))، فنزلَت: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ... إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ﴾ [التحريم: 1- 5] لعائشة وحفصة؛ إذ أسرَّ النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: أهل السنة والجماعة لا يُحاولون طمسَ الحقيقة؛ بل هذه الحادثة مدوَّنة في أصحِّ كتابٍ بعد كتاب الله؛ في صحيح البخاري، والحديث المسَرُّ هو تحريم رسول الله لجاريته ماريةَ القبطية على نفسه، أو امتناعُه عن أكل العسل عند زوجته زينبَ بنت جحش رضي الله عنها.

ثالثًا: أما قولهم: قوله تعالى: ﴿ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4] يدلُّ على كفر عائشة وحفصة رضي الله عنهما؛ لأن قراءتهم: (فقد زاغت قلوبكما)؛ كما ذكرها النوري الطبرسي[32] في فَصل الخطاب، والبياضي في الصراط المستقيم، وقالوا: الزيغ هو الكفر.

وهذه الدعوى باطلة أيضًا؛ لأن الزَّيغ معناه: الميل، وهذا الميل متعلِّق بالغيرة لا غير، والزيغ والميل في هذه المسألة: الغيرة بين الضَّرائر ليس زيغًا عن الإسلام إلى الكفر، فالغيرة من جبِلَّة النساء، ولا مؤاخذةَ على الأمور الجبلية.

وعائشة وحفصة رضي الله عنهما قد مال قلباهما إلى محبة اجتنابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم جاريتَه، وتحريمِها على نفسه، أو مالت قلوبهما إلى تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم لِمَا كان مباحًا له؛ كالعسل مثلًا.

رابعًا: الغيرة بين أزواج النبيِّ حاصلةٌ في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يرى ذلك ويبتسِم ويُقرُّهن على هذا؛ لأن هذا من طبائع النساء، ولم يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من غيرتهن، كما في البخاريِّ من حديث أنس قال: "كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند بعض نسائه، فأرسلَت إحدى أمهات المؤمنين بصَحفة فيها طعام، فضربَت التي النبيُّ صلى الله عليه وسلم في بيتها يدَ الخادم، فسقَطَت الصَّحفةُ فانفلقَت، فجمع النبيُّ صلى الله عليه وسلم فلق الصحفة ثم جعل يجمَع فيها الطعام الذي كان في الصحفة ويقول: ((غارت أمُّكم))، ثم حبس الخادم حتى أتي بصحفةٍ من عند التي هو في بيتها، فدفع الصَّحفة الصحيحة إلى التي كُسرت صحفتها، وأمسك المكسورةَ في بيت التي كسَرَت"[33].

وكذلك غَيرة سارة زوجةِ إبراهيم عليه السلام من هاجرَ عليهم السلام.

وأمَّا ادِّعاء الشيعة أن حفصةَ رضي الله عنها كفَرت لأنَّها سألَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم: مَن أنبأك هذا؟ فغيرُ صحيح؛ لأنَّ قولها: من أنبأك هذا؟ ليس فيه طعنٌ في نبوته، أو شكٌّ في أن الله أطلعه على ذلك؛ لأنها قد كانت أخبرَت عائشةَ رضي الله عنها بالحديث الذي أسرَّه لها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فسألَته: من أنبأك هذا؟ لتعرف هل عائشةُ هي التي أنبأته، وهذا واضحٌ لا يَخفى.

خامسًا: الله عز وجل دَعاهما إلى التوبة بقوله: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ﴾ [التحريم: 4]، فهُما قد ثابَتا ورجعَتا إلى الله عز وجل، وهذا عتابٌ من الله لهما كما عاتب الله نبيَّه وحبيبه وصفيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ﴾ [التحريم: 1]؛ هل يقول قائل: نأخذ بمفهوم المخالفة لمن فطرتُه منكوسة وأفهامه معكوسة ويقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبتغِ مرضاتَ الله؟! وإنما الله يربي نبيه ويربي أزواجه ويؤدِّبهم ويَصطفيهم؛ حتى يُعلي قدرهم بين العالمين.

وهذا نظير قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 74 - 75]، ونظير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ﴾ [الأحزاب: 1]، هل يقول عاقل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من المتقين، أو أنه كان يطيع الكافرين والمنافقين؟!

وكقوله تعالى لنوحٍ: ﴿ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46]، فهل كان نوح من الجاهلين؟!

سادسًا: عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما، لو كان منهما ما يوجبُ الكفر لطلَّقَهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز للمسلمِ فضلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يُمسِك الكوافر؛ قال تعالى: ﴿ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ﴾ [الممتحنة: 10]، ولا أن يجعل في ذمَّتِه الكافرات المشركات؛ لقوله تعالى: ﴿ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ﴾ [الممتحنة: 10].

وهذا عند السنة والرافضة؛ قال القمِّي في تفسيره (سورة الممتحنة) عند قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ﴾ [الممتحنة: 10]: "عن أبي جعفر قال: من كانت عنده امرأةٌ كافرة؛ يعني: على غير ملَّة الإسلام، وهو على ملة الإسلام، فليَعرِض عليها الإسلام، فإن قَبِلت فهي امرأتُه، وإلا فهي بريئةٌ منه، فنهى الله أن يُمسك بعصمتها"[34].

فكيف يَسمحون لأنفسهم بأن يقولوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم خالف قولَه تعالى في هذه الآية؟! سبحانك ربي هذا بهتان عظيم!

سابعًا: أن الله تعالى أخبر عباده أنَّ ثوابهن على الطاعة والعمل الصالح ضعفُ أجر غيرهن؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ [الأحزاب: 31].

ففي هذه الآية أن التي تُطيع الله ورسوله منهن وتعمل صالحًا فإنَّ الله يعطيها ضِعف ثواب غيرها من سائر نساء المسلمين، وأعدَّ الله لها في الآخرة عيشًا هنيئًا في الجنان.

قال الحافظ ابن كثير: ﴿ نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ﴾ [الأحزاب: 31]؛ أي: في الجنة؛ فإنَّهن في منازلِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليِّين، فوق مَنازل جميع الخلائق في الوسيلة التي هي أقربُ منازل الجنةِ إلى العرش.

ثامنًا: أهل البدع والزَّندقةِ يعمدون إلى نصوص القرآن التي فيها ذِكر ذنوب ومعاصٍ صدرَت من بعض الصحابة وأقلعوا عنها وتابوا منها، فيتأوَّلون النصوص بأنواع التأويلات لا يؤيِّدها برهان، وأما أهل السنة فيقولون: بل أصحاب الذنوب تابوا منها ورفع الله درجاتِهم بالتوبة.

بتقدير أن يكون هناك ذنبٌ لعائشة وحفصة، فتَكونا قد تابتا منه، وهذا ظاهرٌ لقوله تعالى: ﴿ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ﴾ [التحريم: 4] فدَعاهما الله تعالى إلى التوبة، فلا يُظنُّ بهما أنهما لم تتوبا، مع ما ثبتَ من علوِّ درجتهما، وأنهما زوجَتا نبيه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.

تاسعًا: أنَّهن اختَرن الله ورسولَه والدار الآخرة؛ إيثارًا منهن لذلك على الدنيا وزينتِها، فأعدَّ الله لهن على ذلك ثوابًا جزيلًا وأجرًا عظيمًا؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28 -29].

ففي البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: لما أُمر رسول الله بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: ((إني ذاكرٌ لكِ أمرًا، ولا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك))، قالت: قد أعلمُ أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقِكَ، ثم قال: ((إن الله قال: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28 - 29]))، قلتُ: أفي هذا أستأمرُ أبويَّ؟! فإني أريد الله ورسولَه والدارَ الآخرة! ثم خير نساءه، فقُلن مثل ما قالت عائشة[35].

فإنَّ الله خيَّرهن بين الحياة الدنيا وزينتها وبينَ الله ورسوله والدارِ الآخرة، فاختَرن الله ورسوله والدار الآخرة.

لذلك مات عنهنَّ النبي وهن أمَّهات المؤمِنين بنصِّ القرآن، والذنب يُغفر ويُعفى عنه بالتَّوبة وبالحسَنات الماحيات وبالمصائب المكفِّرة.

عاشرًا: نقول أخيرًا: إنَّ أهل السنة والجماعة لا يَعتقدون أن الصحابيَّ معصومٌ من كبائر الإثم وصَغائره، بل تجوز عليهم الذنوبُ في الجملة، ولكن لهم من السَّوابق والفضائل ما يوجب مغفرةَ ما يَصدُر منهم إن صدَر، ثم إذا كان صدر من أحدهم ذنب فيكون إما قد تاب منه، أو أَتى بحسنات تمحوه، أو غُفر له بسابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهم أحقُّ الناس بشفاعته، أو ابتُلي ببلاءٍ في الدنيا كُفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحقَّقة، فكيف بالأمور التي هم مجتهدون فيها: إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجرٌ واحد؟! والخطأ مغفور.

ثم إن القدر الذي يُنكَر مِن فعل بعضهم قليلٌ نادر، مغفورٌ في جنب فضائل القوم ومحاسنِهم؛ من إيمان وجهاد، وهِجرة ونُصرة، وعلم نافع وعمل صالح[36].

ادِّعاؤهم أن عائشة ليست من أهل البيت
يَذهب بعضُ الشيعة إلى أنَّ المراد بـ"أهل البيت" هم أصحاب الكِساء فقط[37]، وهم خمسة: (محمَّد صلى الله عليه وسلم، وعليٌّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، رضي الله عنهم)، ومع وقوعِ اختلافٍ بينَهم في إدخالِ غيرِ هؤلاء الخمسة، وكذلك اختلافهم في الفَرق بين "الأهل" و"الآل"، ومع هذا الاختلافِ فإنهم متَّفقون على أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لسنَ من أهل البيت.

والجواب:
أولًا: في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ [الأحزاب: 33].

الضمير في قوله: {عَنْكُمُ} يعودُ على الزَّوجات الطاهرات لأنَّ سياق الآيات كلَّه يعود عليهن.

روى ابنُ أبي حاتم عنِ ابن عبَّاسٍ أنه قال: نزلَت في نساء النبيِّ صلى الله عليه وسلم خاصَّة[38]. وكذا قال عكرمة.

ثانيًا: إذهاب الرِّجس عن النساء أحقُّ من إذهابه عن الرجال؛ لأن الرجل إذ الحق الرجسُ نساءَه لحقه بالضَّرورة.

ثالثًا: لم يقل: "عنكنَّ" بضمير المؤنث، بل قال: "عنكم"؛ لاحتمالين:
(أ) دخول الرِّجال من أهل البيت في إرادةِ تطهيره، وعلى هذا فيغلب ضمير المذكر على ضمير المؤنث، فآية التطهير شاملةٌ لنساء البيت ورجاله، وعلى رأسهم نبيُّنا صلى الله عليه وسلم.

(ب) أو لأن الضمير انصرف إلى لفظ: "الأهل" وهي لفظةٌ مذكَّرة، فناسب أن يكون الضمير بلفظ التذكير.

فهل هناك دليلٌ على أن نساءه من أهل البيت؟
الجواب: نعم.

(أ) قولُه في الآية: ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [الأحزاب: 34]، فجَعل بيوت النبيِّ صلى الله عليه وسلم بيوتَهن، إذًا هنَّ من أهل البيت.

(ب) ما رواه الصافي في كتب الشيعة أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرسل عليًّا يقتلُ رجلًا اتُّهم في مارية، وأن عليًّا رآه خصيًّا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الحمدُ لله الذي صرَف عنَّا السوء أهلَ البيت))، فحيث كان السُّوء لاحقًا بمارية القبطيَّة، وهي أَمَتُه، فكيف لا يَلحَق به إذا كان الزوجاتُ الطاهرات، وحيث جعل مارية من أهل البيت بالنصِّ القطعي لدى الشيعة فلأَن تكون زوجاتُه الطاهرات أهلَ البيت من باب أَوْلى.

رابعًا: إذا كنتم تتمسَّكون بحديث الكِساء، فمِن أين أدخلتُم أولادَ الحسين فقط، دون أولاد الحسَن، أو الأئمَّة، مع إخراجكم الزوجات الطاهرات، وهنَّ قد اختَرنَ الله ورسوله باتفاق الشيعة؛ فقد والَينَ الله ورسوله بذلك، فإخراجهن وإدخالُ غيرهن تَحكُّم، وإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

فإذا قلتم: إنَّ لفظ: "أهل البيت" قُصد بها أهلُ الكساء؛ فإنه لا يَشمل أولادهم، وإن شَمِل أولادَهم فليس هناك ما يخصِّص أولاد الحسين دون الحسَن، وإن خُصِّص بأولاد الحسين فلا مُخصِّص بأنهم تسعةٌ فقط.

خامسًا: أنَّ لفظ "الأهل" يُطلَق على الزوجة، وقد ورد ذلك نصًّا في القرآن والسنَّة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ [هود: 40] ذكَرٍ وأنثى، ﴿ وَأَهْلَكَ ﴾ أريدَ امرأتُه وبَنوه ونساؤهم.

وقد نصَّ الصافي (من مفسِّري الشيعة) على أنَّ المقصود بالأهل في قصة نوح: امرأته ونساءه.

وكذلك قوله تعالى: ﴿ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ [هود: 73]، والمقصود بها سارة زوج إبراهيم عليه السلام.

قلت: وورد في حديث الإفك: ((من يَعذِرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي))، ومعلومٌ أن الإيذاء كان في عائشةَ لا في فاطمةَ ولا الحسَن والحسين.

وقد جاء ما هو أصرحُ من ذلك:
ففي قصة زواجه من زينبَ بنتِ جحش رضي الله عنها، وفي آخرها: فبقي ثلاثةُ رهط يتحدَّثون في البيت، وذلك قبل نزول آيةِ الحجاب، فخرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى حجرة عائشةَ فقال: ((السلام عليكم أهلَ البيت ورحمة الله))، فقالت: وعليكم السلام ورحمة الله، كيف أهلك؟ بارك الله، ثم تتبَّع حُجرَ نسائه، فقال لهن مثل مقالته لعائشة رضي الله تعالى عنها[39].

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الإفك: ((والله ما علمت على أهلي إلا خيرًا)).

وأما قول القائل: إن "آل" الرجال غيُر "أهل" بيته، فهذا تحكُّم وتكلُّف؛ لأنه تخصيصٌ من غير مخصص، بل القول بأن أهل بيته هم الزوجاتُ هو أولى من غيره؛ لأنهن المقيماتُ معه في بيته، وقد تقدم تصريحه عن عائشة خاصة في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من رجل يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟!)).

سادسًا: قوله في حديث الكساء: ((هؤلاء أهل بيتي)) لا يَلزم منه إخراجُ الزوجات، حتى لو قيل: إنَّ الآية نزلَت في الخمسة أصحابِ الكساء؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

فأهل بيته صلى الله عليه وسلم يشمل:
1- الزوجات الطاهرات؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾ [الأَحزاب: 33].

2- أصحاب الكساء، وهم مع النبي صلى الله عليه وسلم: علي، وفاطمة، والحسن، والحسين.

3- ويشمل أيضًا من حَرُمت عليهم الصدقة؛ لما ثبَت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمِّه العباس حين سأله الزكاةَ: ((إنها لا تحلُّ لآل محمد، وإنَّما هي أوساخُ الناس))[40]، والمقصود بهم بنو هاشم وبنو المطَّلب.

شبهة تتعلَّق بمرور عائشةَ رضي الله عنها على ماء الحوأب
وقصَّة هذا الماء وردَت في أحاديثَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: عن قيس بن حازمٍ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: ((كيف بإحداكنَّ تنبح عليها كلاب الحوأب))[41].

ومِن طريق آخرَ من طريق شعبةَ عن إسماعيل، ولفظه: أنَّ عائشة لما أتَت على الحوأب سمعَت نباح الكلاب، فقالت: ما أظنُّني إلا راجعةً، إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: ((أيتكنَّ ينبح عليها كلابُ الحوأب؟!))، فقال لها الزبيرُ بن العوام: أترجِعين؟ عسى الله أن يُصلِح بكِ بين الناس[42].

والجواب من وجوه:
أولًا: الحديث كما هو واضحٌ من خلال هذه الروايات يُبيِّن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُلمح إلى هذه الحادثة، وإلى هذا المرورُ لإحدى زوجاته، ولم يُرد بذلك طعنًا لها ولا مسًّا من مكانتِها فما هو إلا مجرَّد إخبار لحدثٍ سيَحدث ليس فيه أمرٌ أو نهي.

ثانيًا: ليس في الحديث أمرٌ بالمضيِّ أو الرجوع، فهل تَعلم عائشة الغيب أن ما سيحدث في مضيِّها أو رجوعها؟! وهل أشار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث إلى شيء من هذا؟!

الجواب: لم يحدث بذلك في الحديث.

ثالثًا: إذا كنتم ترَون أنَّ عائشة رضي الله عنها في مضيِّها آثمةٌ؛ لأنَّها استمرت في ذهابها مع نباح كلاب الحوأب عليها، فيَلزمكم أن تُسيئوا الظن برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنه أبقى عائشة معه ولم يطلِّقها مع علمِه بالأحداث! وهذا لم يقل به أحد.

وأقول: أما يَكفيكم ويُجزئكم ما كفى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك بمعرفة الخبر الذي يدل على نبوءته فحَسْب، دون الطعنِ في عائشة رضي الله عنها.

رابعًا: الحديث دليل على حسن نيةِ عائشة رضي الله عنها؛ لأنها لما علمَت بالمكان ونباحِ الكلاب عليها أرادَت أن ترجع، ولكن لما أُشير عليها بالإقدام للإصلاح؛ تقدَّمَت.

خامسًا: أدخلتم في الأحداث أكذوبةً، وهي أن طلحة والزبير أقسَما لها بأن هذا المكان ليس بالحوأب، وشهِدَ معهما خمسون رجلًا، "وهي روايةٌ كاذبة"[43]، فلو سلَّمنا لكم جدلًا، فلماذا تتَّهمون عائشة رضي الله عنها، وقد أيقنَت - على حسب روايتكم المكذوبة - أن هذا المكان هو الحوأب؛ وذلك للأيمان التي تدَّعون أنهم أقسَموا لها بأنَّ هذا المكان، إذًا - على حسب روايتكم المكذوبة - لَم تقدم عائشة رضي الله عنها إلا وهي على يقينٍ بأنها لم تُخالف.

ولكنَّنا لا نقول بقولكم؛ فرواية الأيمان لا تصح، والصحيحُ ما تقدَّم، لكن عائشة رضي الله عنها لم تقَع في مخالفةٍ وإثم؛ لأنَّ الحديث ليس فيه أمرٌ أو نهي، كما تقدَّم.

شبهة تجهيل عائشةَ أم المؤمنين رضي الله عنها
قالت عائشة: ألا أحدِّثكم عني وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلنا: بلى، قال: قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم عندي، انقلَب فوضَع رداءه وخلَع نعليه فوضعَهما عند رجلَيه، وبسَط طرفَ إزارِه على فراشه فاضطجَع، فلم يلبث إلا ريثَما ظنَّ أن قد رقدتُ، فأخذ رداءه رُويدًا، وانتعل رويدًا، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه رويدًا، فجعَلت درعي في رأسي، واختمرت وتقنَّعت إزاري، ثم انطلقتُ على إثره حتى جاء البقيعَ، فقام فأطالَ القيام، ثم رفعَ يديه ثلاثَ مرات، ثم انحرَف فانحرفتُ، فأسرع فأسرعتُ، فهروَل فهروَلتُ، فأحضر فأحضرتُ، فسبقتُه، فدخلتُ، فليس إلاَّ أنِ اضطجَعتُ، فدخل فقال: ((ما لكِ يا عائش؛ حَشْيَا رابيةً))، قالت: قلتُ: لا شيء؟ قال: ((لتخبِرِنِّي أو ليخبرَنِّي اللطيف الخبير))، قالت: قلتُ: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي! فأخبرتُه، قال: ((فأنتِ السواد الذي رأيتُ أمامي؟)) قلت: نعم، فلهَدَني في صدري لهدةً أوجعَتني، ثم قال: ((أظننتِ أن يَحيف الله عليك ورسولُه؟!))، قالت: مهما يَكتمِ الناس يعلمْه الله! نعَم، قال: ((فإنَّ جبريل أتاني حين رأيتِ، فناداني فأخفاه منكِ فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليكِ وقد وضعتِ ثيابك، وظننتُ أن قد رقدتِ، فكرهتُ أن أوقظَك، وخشيتُ أن تستوحشي، فقال: إنَّ ربكَ يأمركَ أن تأتي أهل البقيع فتستغفِرَ لهم))، قالت: قلتُ: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ قال: ((قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويَرحم الله المستقدِمين منَّا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون))[44].

والجواب على هذا من وجوه[45]:
أولًا: ليس في هذا الحديث أنَّها سألَتِ النبي صلى الله عليه وسلم: هل يعلم اللهُ كلَّ ما نكتمه، وإنما قالت: "مَهما يكتُمْه الناس يعلَمْه الله"، فهذا تقرير، ثم قالت بعد ذلك مؤكِّدةً تقريرَها: "نعم".

ومعلوم أنَّ "مهما" ليست أداة استفهام، وإنما هي أداةُ شرط تفيد التوكيد، أو تفيد العموم[46]، فعائشة رضي الله عنها لا تستفهِم، إنَّما تؤكد بيانَ علم الله عز وجل لما يكتمهُ الناس فيعم علمُه لكلِّ الأشياء.

ثانيًا: يؤيد هذا ما ثبت في إحدى روايات الحديث بلفظ: "مهما يَكتُم الناس فقد عَلِمه الله"[47].

فهذه العبارة تدلُّ دلالة واضحة على إخبارها بذلك، وليس فيها أدنى احتمال للاستفهام كما قد يتوهَّمه البعض في الرواية السابقة.

ثالثًا: قوله في الحديث: "نعم" يحتمل أن القائل عائشةُ رضي الله عنها، ويحتمل أن القائل النبي صلى الله عليه وسلم، ردًّا على كلام عائشة رضي الله عنها.

فعلى الاحتمال الأول (وهو الراجح) لا إشكال، كما تقدَّم؛ فعائشة رضي الله عنها بعدَ أن ذكرَت الجملة الأولى، قالت: "نعم" تقريرًا لما ذكرَته، وعلى الاحتمال الثاني فيحتمل أحد أمرين:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك تأكيدًا لكلامها، لا جوابًا كما يَطعن بذلك بعض الرافضة.

الثاني: أنه قال ذلك ابتداءً لكلامِه الذي ذكره بعد ذلك.

رابعًا: الراجح أن قول "نعم" من تتمَّة كلام عائشة رضي الله عنها؛ وذلك لعدة أمور:
(1) أن إسناد عبد الرزَّاق أعلى إسناد في الرِّوايات، وفيه أنه من كلام عائشة رضي الله عنها، فيترجَّح بعلوِّ الإسناد.

(2) أنها الرواية الواردة في صحيح مسلم، ومعلوم أن الإمام مسلمًا رحمه الله عنده شدة الإتقان والضبط ومراعاة الألفاظ، كما قال السيوطيُّ رحمه الله:
ومَن يفضِّلْ مُسلمًا فإنَّما ♦♦♦ ترتيبَه وصُنعَه قد أَحكَما

خامسًا: كلام الشرَّاح لم يتعرَّضوا لأدنى شبهةٍ على الحديث؛ لوضوحه لديهم، فعلى سبيل المثال قال الإمام النوويُّ رحمه الله: "قولها: "مهما يكتم الناس يعلمه الله، نعم" هكذا هو في الأصول، وهو صحيحٌ، وكأنها لما قالت: "مهما يكتم الناس يعلمه الله" صدَّقَت نفسها فقالت: نعم"[48].

سادسًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أمَّ المؤمنين حشيا رابيةً - يعني يَرتفع صدرُها لأعلى - قال: ((لتُخبرنِّي، أو ليخبرني اللطيف الخبير))، فقد أعلمَها النبي صلى الله عليه وسلم أنها إن لم تخبِره أخبرَها الذي يعلم كلَّ شيء، فكيف تسأل بعد ذلك؟

سابعًا: أنها لو كانت تقول ذلك على سبيل الجهل منها بذلك، وقد تربَّت في بيت الصديق ثم في بيت النبوَّة، لعنَّفها النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قد لهَدها في صدرها لهدةً أوجعَتها لما ظنَّت أن خروجه لامرأةٍ أخرى قائلًا: ((أظننتِ أن يَحيف الله عليك ورسوله؟!))، فكيف لم يعنِّفها في الأمر الآخر وهو أشدُّ وأهم؟!

ادعاؤهم أن عائشة سمَّت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن عائشة رضي الله عنها قالت: لدَدنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، وجعل يشير إلينا: ((لا تَلُدُّوني))، قالت: فقلنا: كراهية المريض بالدواء، فلمَّا أفاق، قال: ((ألم أنهَكم أن تَلدُّوني؟!))، قلنا: كراهيةً للدواء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبقى منكم أحدٌ إلا لُدَّ وأنا أنظر، إلا العباس؛ فإنه لم يشهَدكم))[49].

اللَّدود: هو الدواء الذي يُصيب في أحد جانبي فم المريض، أو يُدخَلُ فيه بأصبع وغيرها، ويحنَّك به، وأما الوَجور: فهو إدخالُ الدواء في وسط الفم، والسَّعوط: إدخاله عن طريق الأنف.

وذات الجنب: ورمٌ حارٌّ يعرِض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع، ويلزم ذاتَ الجنب الحقيقي خمسةُ أعراض، وهي: الحُمى، والسعال، والوجع الناخس، وضيق النفَس، والنبض المنشاري[50].

والجواب عن ذلك من وجوه:
أولًا: أن من روى هذه الحادثة للعالَم هي عائشة رضي الله عنها؛ فكيف تنقل للناس قتلها لنبيِّها، وزوجها، وحبيبها صلى الله عليه وسلم؟! وكذلك روت الحادثةَ أمُّ سلمة، وأسماء بنت عميس رضي الله عنهما، وكل أولئك متهمات في دينهن عند الرافضة، ومشاركاتٌ في قتله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قبلوا روايتهن لهذا الحديث، فاعجبوا أيها العقلاء!

ثانيًا: مِن أين علم الرافضة مكوِّنات الدواء الذي وضعَته عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى يقال: إنها قتلَته ووضعَت له سُمًّا؟! فبدلًا من أن يرَوا في الحديث فضيلة لها بأن بادرَت لعلاجه صلى الله عليه وسلم، قلبوا الحديث فجعلوه ذمًّا لا مدحًا.

ثالثًا: النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن يوضع الدواءُ نفسُه في فمِ كل من كان في الغرفة، إلا العباس رضي الله عنه، فلماذا مات هو صلى الله عليه وسلم منه، وهنَّ لم يَمُتْن؟! فهل انقلب سمًّا لما لُدَّ به النبي صلى الله عليه وسلم فقط، ولم يؤثِّر في أحد غيره؟!

رابعًا: لماذا لم يُخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمَّه العباس رضي الله عنه بما فعلوه من وضع السمِّ في فمه صلى الله عليه وسلم حتى يَقتصَّ ممن قتله؟! إذا قُلتم: أخبَره، فأين الدليل على إخباره؟ وإن قُلتم: لم يخبره، فكيف علمتم أنه سمٌّ وليس دواءً، والعباس نفسه لم يَعلم؟!

خامسًا: السم الذي وضعَته اليهودية في الطعام الذي قُدِّم للنبي صلى الله عليه وسلم كُشِفَ أمرُه من الله تعالى، وأخبرت الشاةُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنها مسمومة، فلماذا لم يحصل معه صلى الله عليه وسلم الأمرُ نفسُه في السمِّ الذي وضعتُه عائشة في فمه؟!

سادسًا: لا ننكر أن يكون النبيُّ صلى الله عليه وسلم مات بأثر السم! لكن أيُّ سمٍّ هذا؟ إنه السم الذي وضعَته اليهودية للنبي صلى الله عليه وسلم في طعام دعَته لأكله عندها، وقد لفظ صلى الله عليه وسلم اللقمة؛ لإخبار الله تعالى بوجود السم في الطعام، فأخبَر النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أيامه أنه يجد أثر تلك اللقمة على بدنه، ومن هنا قال من قال مِن سلف هذه الأمة: إن الله تعالى جمَعَ له بين النبوة والشهادة.

سابعًا: من الواضح في الرواية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم لم يفهمن من نهي النبي صلى الله عليه وسلم بعدم لدِّه أنه نهي شرعي، بل فهموا أنه من كراهية المريض للدواء، وفهمهم هذا ليس بمستنكر في الظاهر، وقد صرَّحوا بأنهم - وإن لم يكن لهم عذرٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الأصل هو الاستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم - قد أخطؤوا في تشخيص ذاته صلى الله عليه وسلم؛ لذا فقد ناولوه دواءً لا يُناسب علته.

قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله: "وإنما أنكر التداويَ؛ لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به "ذات الجنب"، فداووه بما يلائمها، ولم يكن به ذلك؛ كما هو ظاهر في سياق الخبر كما ترى"[51].

ثامنًا: هل اقتصَّ منهم صلى الله عليه وسلم أو أراد تأديبَهم؟ الظاهر أنَّ ما فعله صلى الله عليه وسلم من إلزامهم بتناول ذلك اللَّدود أنه من باب التأديب، ومما يدلُّ على أنه ليس من باب القصاص أنه لم يلزمهم بالكميَّة، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "والذي يَظهر أنه أراد بذلك تأديبهم؛ لئلاَّ يعودوا، فكان ذلك تأديبًا، لا قصاصًا، ولا انتقامًا"[52].

تاسعًا: الاشتباه بنوع مَرضه صلى الله عليه وسلم محتملٌ؛ لأن كلاًّ منهما - أي: ما كان فيه صلى الله عليه وسلم من مرض، وما ظنوه له الاسم نفسه؛ فكلاهما - يُطلق عليه: "ذات الجنب"، وكلاهما له مكان الألم نفسه، وهو "الجنب"[53].

عاشرًا: استثناء العباس دليلٌ على أنه كان في البيت غير أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يعقل أن فاطمة وعليًّا رضي الله عنهما لم يكونا موجودين في مرضه صلى الله عليه وسلم، فهل يتهم هؤلاء أيضًا عندكم بأنهم شاركوا في لدِّه وسمِّه.


[1] مصنف ابن أبي شيبة (4/ 49، 484).
[2] "ميزان الاعتدال" (3/ 166)، الترجمة (5996).
[3] مشارق أنوار اليقين ص86 لرجب البرسي.
[4] مسند البزَّار (968).
[5] انظر ترجمته في: الجرح والتعديل (2/ 213)، و"الضعفاء والمتروكين" لابن الجوزي (1/ 99)، و"ميزان الاعتدال" (1/ 334)، و"لسان الميزان" (1/ 352)، و"الضعفاء" للعقيلي (1/ 100).
[6] انظر السلسلة الضعيفة رقم (2662).
[7] مجمع الزوائد (9/ 314).
[8] رواه البخاريُّ (6687) (6688).
[9] تقدم تخريجه، انظر الردَّ على الشبهة الأولى.
[10] العواصم من القواصم (ص159).
[11] "الفِصَل في الملل والنِّحل" (4/ 238 - 239).
[12] البداية والنهاية (7/ 5).
[13] شرح العقيدة الطحاوية ص723.
[14] رواه ابن حبان (4613).
[15] شذرات الذهب (1/ 26).
[16] الطبري (5/ 223).
[17] انظر البداية والنهاية (7/ 274)، والعواصم من القواصم.
[18] البخاري (4476)، وأحمد (1/ 22).
[19] رواه أحمد (6/ 146) (25179)، وقال شعيب: إسناده ضعيف لضعف جابر، وهو ابن يَزيدَ الجعفي، ويزيد بن مرة، ولجهالة لميس، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 207): فيه جابر الجعفي وهو ضعيف جدًّا، وقد وُثِّق، ولميس لم أعرفها.
[20] رواه ابن راهويه في "مسنده" (3/ 914) (1602)، والحاكم (4/ 393)، وصححه ووافقه الذهبي، ورواه أحمد (6/ 205) (25741)، وقال شعيب: حديث صحيح.
[21] وردت هذه الألقاب في كتاب "الصراط المستقيم" للشيعي البياض (3/ 161).
[22] أخرجه أحمد (2/ 868 - 870)، والترمذي (5/ 707)، والحاكم (3/ 393)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
[23] اقتبَستُ هذا البحث بتصرُّف من مقالة بموقع الألوكة.
[24] البخاري (6687)، (6688).
[25] تاريخ الطبري (4/ 544).
[26] صحيح: رواه ابن حبان (7095)، والحاكم (4/ 10)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه شعيب، وصححه الألباني في الصحيحة (2255).
[27] انظر صحيح البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب فضل عائشة رضي الله عنها (7/ 106 - فتح الباري).
[28] انظر صحيح البخاري (3415)، (4770)، ومسلم (1066)، (1068)، وسنن أبي داود (4770)، والترمذي (2188)، والنسائي (7/ 119)، (4102)، وابن ماجه (168).
[29] فبعضهم يرى أن الحديث المسَرَّ به هو أن عليًّا هو الوصي، وبعضهم يرى أن الحديث المسرَّ به أنه قال لحفصة: إن أباك وأبا بكر يَليان مِن بعدي، وبعضهم وافق أهل السُّنة، وهو تحريم العسَل أو الجارية.
[30] انظر: الصراط المستقيم للبياض (3/ 168).
[31] نقله ابن كثير في البداية والنهاية (7/ 248).
[32] انظر فصل الخطاب (ص313)، والصراط المستقيم للبياضي (3/ 168).
[33] البخاري (4927)، وأبو داود (3567)، والنسائي (7/ 70)، وابن ماجه (2334).
[34] تفسير القمي (2/ 344).
[35] البخاري: (2336).
[36] انظر منهاج السنة النبوية لابن تيمية (4/ 313 - 314).
[37] تقدم مبحث العلاقة بين عائشة وعلي رضي الله عنهما.
[38] رواه ابن أبي حاتم (9/ 3132)، برقم (17675).
[39] البخاري، كتاب القبر باب: (لا تدخلوا بيوت النبي).
[40] مسلم (1072)، وأبو داود (2985).
[41] رواه أحمد في مسنده 6/ 97، وقال الهيثمي: رواه البزار ورجاله ثقات، "مجمع الزوائد" (7/ 234).
[42] وبهذا اللفظ أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 120). وقال الألباني رحمه الله: إسناده صحيح جدًّا، وقال: صحَّحه من كبار أئمة الحديث: ابن حبان، والذهبي، وابن كثير، وابن حجر.
[43] نبه على ذلك العلامة الألباني رحمه الله أثناء تصحيحه للرواية السابقة؛ انظر: الصحيحة (475).
[44] مسلم (974)، وأحمد (6/ 71).
[45] استفدتُ هذا البحث من منتديات شبكة المنهج بإشراف عثمان الخميس حفظه الله، والكاتب ابن هشام الدِّمشقي؛ بتصرُّف مني.
[46] انظر: تفسير الألوسي (9/ 33)، والقرطبي (9/ 308.
[47] أخرجه ابن حبان (7110)، والنسائي في سننه (2037).ش
[48] شرح النووي لصحيح مسلم (7/ 24).
[49] رواه البخاري (6501)، ومسلم (2213)، ورواه أحمد (45/ 460)، وصححه الألباني في الصحيحة (3339).
[50] ينظر: "زاد المعاد، في هَدي خير العباد" (4/ 81 - 83).
[51] فتح الباري (8/ 147، 148).
[52] فتح الباري (8/ 147).
[53] راجع في ذلك "زاد المعاد" (4/ 81، 82).

إرسال تعليق

 
Top