أمَّاه:
يَعجز البَيانُ عن تَعداد المَناقِب في مِضمَار (العظمة) و(المجد)
بين يَدِي العُظَماء الكِبار، لم يَشهَدكِ التاريخ في سَنَوات حياتِك التي
قارَبتِ السَّبعينَ إلاَّ أُمَّةً في امرأة، وطُهرًا مَلائكيًّا في صورةٍ
بشريَّة، وكمالاً سماويًّا تَجَسَّدَ في كائنٍ إنسانيٍّ.
وَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ ذَكَرْنَا
لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ
وَمَا التَّأْنِيثُ لاِسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ
وَلاَ التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلاَلِ
|
أنجبَتْك خيرُ البلاد (مكة) - شرَّفَها الله - وولدَك خيرُ الناس بعد الأنبياء (أبو بكر)،
في خيرِ القبائل وأعلى الأنساب من بني فِهْر، ونشَأتِ على التَّوحِيد
والفِطرَة والخُلُق الأسمَى منذ اللَّحظة الأُولَى في الحياة، وزَوَّجَكِ
اللهُ من فوق سبعِ سَماواتٍ؛ إذ أرى الله نبيَّه - عليه الصلاة والسلام
والتحيَّة - ملَكًا يعرضك عليه بعد وَفاة خديجة في سَرَقةٍ من حرير، فلم
تشبِّي إلاَّ في كنف أعظم الخلق وسيِّد الرُّسل محمد - صلوات الله وسلامه
عليه.
كنتِ خيرَ زوجةٍ لخيرِ زوجٍ -
بأبي هو وأمِّي - فُزتِ بِخَالِص وُدِّه، وكنتِ أحبَّ النِّساء إليه،
وشَهِدَ لكِ بالفَضْل على نِساء العالَمين، وكفَى بها شَهادةً لا ينالُها
بعدَك أحدٌ إلى يوم يُبعَثون، وإنَّك لَزوجُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - في الدنيا وفي الأُخرَى، وصاحبة التَّفضِيل والبُشرَى، برُؤيَة
كفِّها في دارٍ مُلكها لا يَبلَى.
أمَّاه:
أنت المُسلِمة المُؤمِنة
القانِتَة، التائبة العابِدة السائحة، المُحصنة الغافِلَة عن الإثم، التي
لم يتزوَّج رسولُ الله - صلوات الله عليه وسلامه - بِكرًا غيرَكِ، وكانَتْ
ليلتك أحبَّ الليالي إليه، وجَدَ فيك ما يسرُّ خاطِرَه ويُزِيل عنه عَناء
الحياة وشظفَ العَيْش، وشدةَ ما لقيه من الناس.
ويوم أنْ أراد "عتاولة"
النِّفاقِ وأهلُ الإفك الطَّعنَ في عِرضِ سيِّد العالَمين - صلَّى الله
عليه وسلَّم - لم يَجِدُوا إلاَّ أنْ يفتَرُوا إفكَهم في جَنابِ سيِّدة
نِساء العالَمين، فبرَّأَها ممَّا قالوا ربُّ العالمين في قرآنٍ يُتلَى إلى
يوم الدِّين، فمَن عاد بعدَ ذلك فهو من الكافِرين.
ولن يَترُك الله أفَّاكًا
يَفرِي في العِرضِ الأطهَرِ والمقام الأقدَسِ إلاَّ أخَذَه، وأخمَدَ ذكرَه،
وقطَعَ أثَرَه، وأنزَلَ عليه غضَبَه، ولعنته يَلقاه بها يومَ يقوم الناس
لربِّ العالمين، وهَيْهات أنْ يَنالُوا من أمِّ المؤمنين وقد قيل:
يَا نَاطِحَ الجَبَلِ العَالِي لِيُوهِنَهُ
أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لاَ تُشْفِقْ عَلَى الجَبَلِ
|
وقيل أيضًا:
كَنَاطِحٍ صَخْرَةً يَوْمًا لِيُوهِنَهَا
فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ
|
ورَضِي الله عن شاعر الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - (حسان بن ثابت) يوم قال في مدح الصديقة بنت الصديق:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزِنُّ بِرِيبَةٍ
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الغَوَافِلِ
نَبِيِّ الهُدَى وَالمَكْرُمَاتِ الفَوَاضِلِ
كِرَامِ المَسَاعِي مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
لِآلِ رَسُولِ اللهِ زَيْنِ المَحَافِلِ
تَقَاصَرُ عَنْهُ سَوْرَةُ المُتَطَاوِلِ
مِنَ المُحْصَنَاتِ غَيْرَ ذَاتِ غَوَائِلِ
|
يَكفِيك فَضْلاً وشَرَفًا أنَّ
رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاضَتْ رُوحُه الطاهرةُ إلى الملأِ
الأعلى، وهو بين سَحرِك ونَحرِك بعد أنْ استاكَ بقَضِيب أراكٍ مسَّه فوكِ،
فجمَع الله بين رِيقِك ورِيقِ الحبيب محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - في
اللحظة التي شيَّعت فيها الملائكُ رُوحَه السامِيَة المطمئنَّة الراضيَة
المرضيَّة إلى مَلِكِ الملوك ورَبِّ الأرباب - سبحانه وتعالى.
وجعَل الله لك الفَضلَ بعد موت
رسوله - عليه الصلاة والسلام - إذ اختارَ الله حجرتَك الشريفةَ مدفنًا
وضَرِيحًا لأزكى الخليقة - فِداه نَفسِي وأهلي ومَن في الأرض جميعًا -
فنَعِمَتْ بالقرب من الحبيب - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيًّا وميتًا؛ فمَن يُساوِيكِ في هذه المَنقَبةِ؟! وأيُّ مجدٍ باذِخٍ وشرفٍ لا نظير له قسَم الله لكِ أيَّتُها الطاهرة البَتُول؟!
أمَّاه:
تجسَّدَتْ فيكِ (المرأة المسلمة)
عِلمًا وعَمَلاً؛ فكُنتِ أعلَمَ النِّساء على الإطلاق، وطالَما وقَف
العُلَماء شبَّانًا وشُيُوخًا على بابِك تَلامِذةً صِغارًا يستَقُون من
نبْع المعرفة المَُتَدفِّق الرَّويِّ، ومنهل العلم الصافي الذي يَصدُر عن
دوحةٍ نبويَّةٍ لا ينضب معينُها أبد الآبِدين.
تحمَّلتِ وبلَّغتِ الدين روايةً
ودرايةً، فكنتِ الحافظةَ الفقيهةَ المفسِّرةَ الراوية النسَّابة الطبيبة
القائدة، حفظتِ للمُسلِمين دينَهم وللعرب شعرَهم وأنسابَهم وأخبارَهم،
وضربتِ في كلِّ علمٍ بسَهمٍ صائِب، فجَزاكِ الله عنَّا خيرًا يا أمَّاه.
وكُنتِ الزاهدةَ العابدةَ
الكريمةَ السخيَّةَ التي تَنسَى نفسَها عند العَطاء، وتتحمَّل ألم الجوع من
أجْل إشباع بطون الجَوعَى وسَدِّ خلَّة المحتاجين؛ لأنَّ الفقر إلى الله
أساسُ الغِنَى عن الناس، فما مددتِ يدَيْك إلاَّ إلى خالقهما، وما رجوتِ
أحدًا سِوَى منتهى الآمال - سبحانه.
اختارَك الله في خير الشُّهور
رَمضانَ لثَمانٍ وخمسين خَلَتْ من هجرة سيِّد الرُّسل - عليه الصلاة
والسلام - وصلَّى عليك أحفَظُ الناس لحديث الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم
- سيِّدُنا أبو هريرة - رضي الله عنه وأرضاه - ويا لله العجب! كيف جُمِع
في تَقاطُع الحياة والموت بين الابن وأمِّه حينما يكونان أحفَظَ الناس
لسُنَن سيِّد الناس - عليه الصلاة والسلام - ودُفِنتِ في ليلةٍ مُبارَكة في
مقبرةٍ مُبارَكة، وحولك الآل والصَّحبُ الكرام يرقدون في البَقِيع،
ويتقلَّبون في نَعِيم الجنَّات وعالي الدرجات في جوار ربِّ الأرض
والسَّماوات، خالِدين مُخلَّدين، لا يَحزُنهم الفزَع الأكبَّر وتتلقَّاهم
الملائكةُ هذا يومُكم الذي كنتم تُوعَدون.
سامِحيني يا أمَّاه، زادَ فضلُك
على أنْ أعُدَّه، وأنت سيِّدة الفضل، وسما محلُّك على أنْ يصفَه مِثلِي،
وأنت صاحِبَة المقام الأشرَفِ؛ ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ [الأحزاب: 33].
اللهمَّ ارضَ عن عائشة
الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق وعن سائر أمَّهات المؤمنين، وعن الآل والصَّحب
الكرام أجمعين، وعنَّا معهم يا ربَّ العالمين.
إرسال تعليق