تتوالَى صيحاتُ أعداء الإسلام، وترتفعُ
أصواتُهم بالتُّهَم الماكرة، والأقاويل الفاجرة؛ استغلالاً لضَعف
المسلمين، وبُعْد كثيرٍ منهم عن أصول الدِّين، فأطَلُّوا برؤوسهم بعد أن
كانوا منقمعين، واشْرَأبُّوا بأعناقهم بعد أن كانوا مسترذَلين معزولين.
فقبل مُدَّة تطاولتْ أيديهم الآثِمة على
أعظم الصحابة روايةً للحديث، أبي هريرة - رضي الله عنه - ثم امْتدتْ
أقلامهم الخبيثة، وألسنتهم الحِداد القارصة؛ لتنالَ من الإمام البخاري
وكتابه الذي هو أصحُّ الكتب بعد كتاب الله - تعالى - ثم تجاسَروا،
فتقَحَّموا بالتدنيس صورةَ أشرف الخَلق، وسيِّد البشر نبيِّنا محمدٍ - صلى
الله عليه وسلم - ثم لم يكْفِهم كلُّ ذلك، حتى تناولوا القرآن الكريم
بالتحريق والتشويه، ثم أتى دورُ هؤلاء الأفَّاكين على أحبِّ إنسانٍ إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجتِه عائشة أُمِّ المؤمنين - رضي الله
عنها وأرضاها - فتوالتِ النِّصال على النِّصال، وأثْخَنوا جِسم الأُمَّة
بالطَّعْن والاعتداء.
فَلَوْ كَانَ سَهْمًا وَاحِدًا لاَتَّقَيْتُهُ
وَلَكِنَّهُ سَهْمٌ وَثَانٍ وَثَالِثُ
|
قال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 58].
لقد قامَ أحدُ المثبورين الكذَّابين
بتجديد فِرْيَة القَذْف والطَّعْن في عِرْض أُمِّ المؤمنين، فاحتفلَ مع
ثُلَّة من رُفقاء دَرْبه بمناسبة وفاتها - رضي الله عنها - فلم يتركْ
مَنقصة إلا رماها بها؛ مِن سبٍّ، وتنقيصٍ، وفساد، بل ارتقتْ به الوَقَاحة،
وقلَّتْ منه الفقاهة؛ حتى حكَم عليها باللعْن والتكفير، بل وشَهِد عليها
بدخول النار.
مَا شَانُ أُمِّ المُؤْمِنِينَ وَشَانِي
هُدِيَ المُحِبُّ لَهَا وَضَلَّ الشَّانِي
إِنِّي أَقُولُ مُبَيِّنًا عَنْ فَضْلِهَا
ومُتَرْجِمًا عَنْ قَوْلِهَا بِلِسَانِي
|
فهل يُعْقَل أن يختارَ الله - عز وجل - لنبيِّه وأشرف خَلقه زوجةً بمثْل تلك الصفات التي رمَاها بها ذلك المأفون؟!
وَإِنَّ الَّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلاَئِطٍ
بِهَا الدَّهْرَ بَلْ قَوْلُ امْرِئٍ بِيَ مَاحِلِ
|
يقول - تعالى -: ﴿ الْخَبِيثَاتُ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ
لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ
مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [النور: 26].
فما كانتْ زوجات الأنبياء إلا عفيفات، أما زوجَتا نوح ولوط - عليهما السلام - اللتان وُصِفَتا بالخيانة في قوله - تعالى -: ﴿ ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ
كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا
فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا
النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾ [التحريم: 10].
فقد قال ابن عباس وغيرُه: "خانتاهما؛ أي:
في الكفر، وفي أنَّ امرأة نوح كانتْ تقول للناس: إنه مجنون، وأنَّ امرأة
لوط كانتْ تنمُّ إلى قومها خبرَ أضيافه"، وقال: "وما بَغَتْ زوجةُ نبيٍّ
قطُّ، ولا ابْتُلي الأنبياءُ في نسائهم بهذا".
فماذا ينقمون من عائشة - رضي الله عنها؟!
• أينقمون منها أنْ كانتْ أقربَ الناس إليه، وأحبَّهم إلى قلبه؟!
• فقد سأل عمرو بن العاص النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّ الناس أحبُّ إليك؟"، قال: ((عائشة))؛ مُتفق عليه.
•
قال الإمام الذهبي: "وحبُّه - عليه السلام - لعائشة كان أمرًا مستفيضًا؛
ألاَ تَراهُم كيف كانوا يتحرَّون بهَداياهم يومَها؛ تقرُّبًا إلى مرضاته؟".
يقْصِد - رحمه الله - ما رواه البخاري من
حديث هشام عن أبيه، قال: "كان الناس يتحرَّون بهداياهم يومَ عائشة، قالتْ
عائشة: فاجتمعَ صَواحِبِي إلى أُمِّ سَلَمَة، فقُلْنَ: يا أُمَّ سَلَمة،
والله إنَّ الناس يتحرَّون بهداياهم يومَ عائشة، وإنَّا نريدُ الخيرَ كما
تُرِيده عائشة، فمُرِي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يأمُر الناسَ
أنْ يُهْدُوا إليه حيثما كان، أو حيثما دارَ، قالتْ: فذَكرتْ ذلك أمُّ
سَلَمة للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالتْ: فأعرَضَ عنِّي، فلمَّا عاد
إِلَيَّ ذكرتُ له ذاك، فأعرَضَ عنِّي، فلمَّا كان في الثالثة، ذكرتُ له،
فقال: ((يا أمَّ سَلَمة، لا تُؤذِيني في عائشة؛ فإنَّه والله ما نزَلَ
عليَّ الوحيُ وأنا في لحافِ امرأةٍ منكنَّ غيرها)).
أم ينقمون منها أنَّها كانتْ أحظى الأزواج لَدَيه؟!
•
تقول - رضي الله عنها -: "تزوَّجَني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في
شوَّال، وبَنَى بي في شوَّال، فأيُّ نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أحظى عنده منِّي؟"؛ مسلم.
•
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: ((كَمَلَ من الرجال كثيرٌ، ولم يَكْمُلْ من النساء إلاَّ آسيةُ امرأةُ
فرعون، ومريمُ بنتُ عمران، وإنَّ فضْلَ عائشة على النساء، كفضل الثَّرِيد
على سائر الطعام))؛ متفق عليه.
أم ينقمون منها أنَّها زوجته في الدنيا والآخرة؟!
•
فعنها - رضي الله عنها - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها:
((أمَا تَرْضَينَ أن تكوني زوجَتي في الدنيا والآخرة؟!))، قالتْ: بَلَى،
قال: ((فأنت زوجتي في الدنيا والآخرة))؛ الصحيحة.
أم ينقمون منها أنَّ جبريل - عليه السلام - أتى النبيَّ - صلى الله عليه
وسلم - بصورتها قبل أن يتزوَّجَها، وكان يقرأ عليها السلام؟!
•
فعنها - رضي الله عنها - أنَّ جبريل جاء بصورتها في خِرْقة حريرٍ خضراء
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّ هذه زوجتُك في الدنيا
والآخرة"؛ صحيح سُنن الترمذي.
•
وعنها - أيضًا - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا عائشة،
هذا جبريل يقرأ عليك السلام))، قالتْ: "وعليه السلام ورحمة الله"؛ البخاري.
زَوْجِي رَسُولُ اللهِ لَمْ أَرَ غَيْرَهُ
اللهُ زَوَّجَنِي بِهِ وَحَبَانِي
وَأَتَاهُ جِبْرِيلُ الأَمِينُ بِصُورَتِي
فَأَحَبَّنِي المُخْتَارُ حِينَ رَآنِي
أَنَا بِكْرُهُ الْعَذْرَاءُ عِنْدِي سِرُّهُ
وَضَجِيعُهُ فِي مَنْزِلِي قَمَرَانِ
|
أم ينقمون منها ما تميَّزتْ به من الخصوصيَّات دون غيرها من النساء؟!
•
قالت - رضي الله عنها -: "إنَّ مِن نِعَم الله عليّ أنَّ رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - توفِّي في بيتي، وفي يومي، وبين سَحْرِي ونَحْرِي؛ أي:
بين صدري وعُنقي، وأنَّ الله جمَعَ بين ريقي وريقِه عند موته"؛ تقصِد أنَّه
عند موته طلَبَ سواكًا، فَلَيَّنَتْهُ له بريقها، فاستاك به، والحديث رواه
البخاري.
•
وعن هشام عن أبيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا كان في
مَرضه، جعَلَ يدور في نسائه ويقول: ((أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟))؛
حِرْصًا على بيت عائشة، قالتْ عائشة: "فلمَّا كان يومي سَكَنَ"؛ البخاري.
الخطبة الثانية
ألاَّ فليعلمْ هؤلاء المتجرِّئون على
عِرْض زوجات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهم على خَطرٍ عظيم إنْ
لم يبادروا بالتوبة من إفْكهم، والتبرّؤ من بُهتانهم.
•
قال ابن حَزْم في "المحلَّى": "قال هشام بن عمَّار: سمعتُ مالكَ بن أنس
يقول: مَن سَبَّ أبا بكر وعمر جُلِدَ، ومَن سَبَّ عائشة قُتِل، قِيلَ له: لِمَ يُقتَل في عائشة؟! قال: لأنَّ الله - تعالى - يقول في عائشة - رضِي الله عنها -: ﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
﴾ [النور: 17]، قال مالك: فمَن رَمَاها فقد خالَفَ القرآن، ومَن خالَف
القرآن قُتِل، قال أبو محمد ابن حَزْم - رَحِمه الله -: "قولُ مالك ها هنا
صحيحٌ، وهي رِدَّة تامَّة وتكذيبٌ لله - تعالى - في قَطعِه ببراءتها".
•
وقال ابن العربي المالكي: "إنَّ أهْلَ الإفْك رمَوا عائشةَ المطهَّرة
بالفاحشة، فبرَّأَها الله، فكلُّ مَن سبَّها بما برَّأَها الله منه، فهو
مُكذِّب لله، ومَن كذَّب اللهَ فهو كافرٌ، فهذا طريق قول مالك".
•
وقال الإمام النووي في براءة عائشة - رضِي الله عنها - من الإفْك: "وهي
براءةٌ قطعيَّة بنصِّ القرآن العزيز، فلو تشكَّك فيها إنسانٌ - والعياذ
بالله - صار كافرًا مرتدًّا بإجماع المسلمين".
• وقال ابن القَيِّم: "واتفقتِ الأُمَّة على كُفْر قاذفِها".
ومَلاك هذا الحُكم قولُه - تعالى -: ﴿ إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 23].
وقوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ
الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا
لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ
مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11].
قال ابنُ كثير - رحمه الله -: "أي: لكلِّ
مَن تكلَّم في هذه القضيَّة، ورَمَى أُمَّ المؤمنين عائشة بشيءٍ من الفاحشة
نصيبٌ عظيمٌ من العذاب".
ورحم الله حسان بن ثابت حين قال في أُمِّ المؤمنين:
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
حَلِيلَةُ خَيْرِ النَّاسِ دِينًا وَمَنْصِبًا
نَبِيِّ الْهُدَى وَالْمَكْرُمَاتِ الْفَوَاضِل ِ
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طيَّبَ اللهُ خَيْمَهَا
وَطَهَّرَهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَبَاطِلِ
|
إرسال تعليق