0

فوائد تربوية من قصة الإفك


(1) دفع المعرَّة عن النفس:
في قولها رضي الله عنها: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18] دليلٌ على أنَّ المرء مأمور على أن يدفع المعرَّة عن نفسه إذا قدَر على ذلك، وكان له من خارجٍ ما يصدِّقه، وإلا فالصبر والاضطرار إلى الله تعالى لعلَّه أن يكشف ذلك بفضله.

(2) صيانة اللسان عن ذكر المستخبثات:
لأنها كنَتْ عن قضاء الحاجة بقولها: "قضيتُ شأني، وكذلك كانت عادة العرب في هذا المعنى؛ ولذا سمَّوا قضاء الحاجة غائطًا، وأهل الغائط المنخفَض من الأرض، وقد كانوا يقضون به الحاجة إبلاغًا في الستر، فسمَّوُا الشيء بالموضع مجازًا".

(3) تبرئة الغير حتى لا يُساء بهم الظن:
وذلك في حالة ما إذا لم يقع منهم تفريطٌ أو غفلة؛ لأن عائشة رضي الله عنها ذكرَت أن الذين حملوا الهودج ظنوا أنها بداخله؛ لأنَّ النساء لم يثقلن ولم يحملن اللَّحم، فلم يقع منهم تفريط، بل تضمَّن ذلك تزكيةً لهم؛ وذلك بسرعة الخدمة بحمل الهودج عندما آذنَ النبي صلى الله عليه وسلم بالرَّحيل.

وفيه تزكيةٌ لهم من جهة أخرى؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ويُستفاد من ذلك أيضًا أن الذين كانوا يرحَلون بعيرها كانوا في غاية الأدب معها، والمبالغة في ترك التغيب عمَّا في الهودج؛ بحيث إنها لم تكن فيه، وهم يظنون أنها فيه"[1].

(4) شؤم الحرص على المال:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "وفيه شؤم الحرص على المال؛ لأنَّها لو لم تُطِل التفتيش لرجعَت بسرعة، فلما زاد على قدر الحاجة أُثر ما جرى، وقريبٌ منه قصة المتخاصمين حيث رُفع عِلم ليلة القدر بسببهما"[2].

(5) الأدب في التعامل مع الأجنبية:
وذلك فيما ذكرَته عن صفوان بن المعطل لما رآها:
(أ) أنه لم يكلِّمها ولم تكلمه؛ أشارت إلى بذلك استمرار ترك المخاطبة لها.

(ب) اكتفاؤه بالاسترجاع رافعًا به صوته؛ صيانةً لها عن المخاطبة في الجملة، قال الحافظ: "وفيه دلالة على فطنة صفوان وحُسن أدبه"[3].

(جـ) أنه قرَّب البعير وولاَّها قفاه لتركب؛ فلا يَرى منها شيئًا.

(د) أنه قاد البعير وهو يسير أمامها؛ حتى لا يرى شخصها، وهذا من كمال خُلقه رضي الله عنه.

(هـ) أنه وطئ البعير على يدها ليكون أيسرَ لركوبها، ولا يحتاج إلى مسِّها.

وأما أدبها هي رضي الله عنها:
(أ) فإنَّها لم تكلِّمه.
(ب) أنها سترَت وجهها عنه.

(6) إغاثة الملهوف، وعون المنقطع، وإنفاذ الضَّائع:
وذلك من فِعل صفوانَ بن المعطِّل رضي الله عنه، حيث أنقذ أم المؤمنين رضي الله عنها من الهلاك في البرِّية.

وقد يُقال: إن هذا أيضًا مأخوذٌ من هديه صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنه جعَل مَن يقفو أثر القوم لأجل مثل هذه المعاني.

(7) من الأدب إكرامُ ذوي القَدر:
وذلك كإيثارها بالركوب، وتجشَّم هو مشقة ذلك؛ فقد مشى صفوان رضي الله عنه، وجعل أم المؤمنين رضي الله عنها تركب إجلالًا منه لها، وإكرامًا لقدرها ومنزلتها.

(8) الهجر بالكلام كوسيلة للتربية:
قال الحافظ رحمه الله: "وفائدة ذلك أن تتفطَّن لتغيُّر الحال، فتعتَذر أو تعترف".

ثم بيَّن مراتب الهِجران بالكلام والملاطفة، فقال: "فإن كان السبب محققًا فيُترك أصلًا - يعني: الكلام والملاطفة - وإن كان مظنونًا فيخفَّف، وإن كان مشكوكًا فيه أو محتمِلًا، فيَحسُن التقليل منه؛ لا للعمل بما قيل، بل لئلاَّ يُظنَّ بصاحبه عدمُ المبالاة بما قيل في حقِّه؛ لأن ذلك من خوارم المروءة".

(9) ذَب المسلم عن المسلم:
وذلك أن عائشة رضي الله عنها قالت لأم مِسطح: "بئس ما قلتِ! أتسُبِّين رجلًا شهد بدرًا؟!".
قال الحافظ رحمه الله: "وفيه ذبُّ المسلم عن المسلم خصوصًا من كان من أهل الفضل، وردعُ من يؤذيهم"[4].

(10) الاسترجاع عند المصيبة:
وهذا كما فعلَه صفوانُ بن المعطل رضي الله عنه؛ حيث إنَّه لما رأى عائشة رضي الله عنها وحدَها في هذا المكان المَخوف، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

قال النوويُّ رحمه الله: "استحباب الاستراجاع عند المصائب؛ سواء كانت في الدين أو في الدنيا، وسواء كانت في نفسه أو من يعزُّ عليه"[5].

(11) كراهية أهل المعاصي وإن كان قريبًا:
قال النوويُّ رحمه الله: "... كراهة الإنسان صاحبَه وقريبه إذا آذى أهل الفضل، أو فعل غير ذلك من القبائح، كما فعلَت أمُّ مسطح في دعائها عليه"[6].

(12) من انتُقد عليه شيء ذكر الدليل ليدفع عن نفسه هذا الانتقاد:
وذلك أن عائشة رضي الله عنها لما انتَقدَت على أم مسطح دعاءها عليه قالت: "أي هنتاه، ألم تسمعي ما قال"... وذكرَت لها الخبر.

(13) حسن المنطق في إبلاغ الخبر:
فأمُّ مسطح رضي الله عنها لم تفاجئ عائشةَ بالخبر، ولكنها خرجت معها؛ وقد يكون ذلك بقصد منها أو بغير قصد، لكنها لما عثرَت في مِرطها دعَت على ولدها، لأنها إذ دعَت بذلك تعلم أن عائشة رضي الله عنها ستسألها عن السبب، وقد كان، فتوسَّلَت بذلك إلى إخبارها الخبر.

(14) الصبر عند البلاء، والاستعانة بالله:
وذلك من صبر عائشة رضي الله عنها عندما علمَت بالمحنة، فقالت مستشهِدة بكتاب الله: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].

وقد حقَّق الله بعد الصبر فرَجًا ومخرجًا، فكانت براءتُها أعظمَ براءة؛ لأنها من الله، وفي كتاب الله.

(15) مَن وقعت به نازلة فليتحاور فيها مع أقرب الناس وأحبِّهم إليه:
بشرط أن يكون عاقلًا عارفًا بعواقب الأمور؛ لأنها لما نزلَت بها هذه النازلة ذهبَت إلى أبويها؛ لكونهما أقرب الناس إليها، وأحبهم لها، ولهم في الدين والعقل والعلم والمعرفة بعواقب الأمور القدَم السابق.

(16) استشارة المرء أهل بطانته ممن يمتُّ إليه بقرابة وغيرها، وتخصيص من جُرِّبت صحة رأيه منهم.

(17) المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات وتسكين الغضب؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما ثار القوم، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يزَل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكتهم حتى سكتوا وسكت.

(18) تفويض الكلام إلى الكبار؛ لأن عائشة رضي الله عنها فوَّضت أبويها للجواب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(19) الحميَّة للدين.
الحمية لله ورسوله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أن استعذَر من عبد الله بن أبي ابن سلول قام سعدٌ عند ذلك حميَّةً صلى الله عليه وسلم لِمَا أراد، فقال: "أنا والله أعذِرُك منه"... إلخ.

(20) ابتداء الكلام بالحمد والثناء.
قال ابن أبي جمرة: "فيه دليل على أن مِن السنة الابتداءَ بذكر الله تعالى في أول الكلام"[7].

وقال ابن حجر: "وفيه ابتداء الكلام في الأمر المهم بالتشهُّد والحمد والثناء"[8].

(21) مشروعية التوبة.
وأنها تُقبل من المعترف المقلع المخلص، وأن مجرد الاعتراف لا يجزئ فيها.


[1] فتح الباري (8/ 490).
[2] فتح الباري (8/ 479).
[3] المصدر السابق (8/ 463).
[4] فتح الباري (8/ 479).
[5] شرح النووي لصحيح مسلم (17/ 116).
[6] المصدر السابق (17/ 116).
[7] بهجة النفوس (3/ 160).
[8] فتح الباري (8/ 480).

إرسال تعليق

 
Top