0

سيكون حديثي عن الصيام ... على ضوء تناول القرآن للفظ الصيام ومشتقاته.
ترددت كلمة الصوم والصيام ومشتقاتهما في أربعة عشر موضعًا من كتاب الله - في سورة البقرة، والنساء والمائدة، ومريم، والأحزاب - وكان استعمال القرآن الكريم لها على خمسة أنحاء:
1 - الصيام تاريخيًّا:
تحدث القرآن الكريم عن عبادة الصيام في الديانات السماوية السابقة للإسلام، وأنه في الإسلام لم يكن بدعًا، وإنما هو منهج مرسوم لشرعة الإيمان القويم في كل دين، يصدق الإيمان إلا بأن يمسك صاحبه - فترة ما - عن شيء من الحلال، ليعتاد الإمساك عن الحرام.
وأول إشارة تاريخية في القرآن إلى صيام السابقين قوله تعالى في سورة البقرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183].
ومن هذه الآية نرى أن الصيام كان مكتوبًا على الأمم التي سبقت أمتنا ممن دعوا إلى رسالة الإسلام التي دعينا إليها.
غير أن أسلوبهم في الصيام كان على غير أسلوبنا، وأداءهم له يختلف عن أدائنا ...
وقد تحدث القرآن الكريم في موضع من المواضع التي استعملت فيها كلمة الصوم عن صورة من صيام السابقين، وهو صيام مريم رضي اللَّه عنها عن الكلام، وإيثارها للصمت عندما واجهها قومها بالشك المريب، والتجريح الذي تضيق به نفس الكريم، قال تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26].
وقد ذكر القرآن هذا اللون من الصيام، وإن لم يذكر بلفظ الصوم - في حديثه عن زكريا عليه السلام وقد بشرته الملائكة بيحيى مصدقًا لما بين يديه، وسيدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين، وطلب زكريا آية فقال الله له: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}.
والصيام عن الكلام وإن كان عبادة سابقة إلا أنه في تقديري خلق أقوم لكل ذي دين، ومتى استطاع المسلم التحكم في جارحة اللسان فقد عصم عقيدته، وصان عبادته، وقطع في طريق السلوك القويم أبعد الآماد.
2 - الصيام تربويًّا:
وأمثل مناهج التربية ما يتجه إلى العقيدة؛ بقيامها على أسس قويمة تعتمد على الإيمان الصادق بالله، والخالص لوجهه الكريم.
وتناول القرآن هذه الناحية في موضع واحد هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أجل الصيام الصادق ينتهي بصاحبه إلى أعلى درجات الإيمان التي تقيم في داخل المؤمن حارسًا على قوله وعمله، وهو ما نسميه مراقبة الله وتقواه. {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وعمل ينتهي بصاحبه إلى هذه الغاية النبيلة لا شك أنه من أسمى الأعمال.
والغايات النبيلة لا بد أن تكون وسائلها نبيلة.
3 - الصيام فقهيًّا:
وقد تناولها القرآن الكريم عدة نواح فقهية في عبادة الصيام في الإسلام.
(أ) رؤية الهلال:
الصيام يجب على المسلمين متى شهدوا الهلال. قال تعالى في سورة البقرة: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

(ب) مباشرة النساء في رمضان:
القرآن الكريم أشار إلى إباحته، قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187].
ولم يستثن القرآن الكريم من عموم هذه الإجازة إلا ليالي الاعتكاف {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
(ج) يوم الصيام:
ذكر القرآن الكريم بداية ونهاية بأسلوب دقيق، لا يتحمل تأويلاً، ولا يحتاج إلى تعقيب يقول تعالى في سورة البقرة: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}.
فيوم الصيام إذن من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس.
(د) المريض والمسافر، وغير القادر على الصوم:
وأما المريض والمسافر، فلهما حق الفطر، وعليهما قضاء ما أفطراه إذا تيسر للمريض الصحة، وتيسر للمسافر: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
وصوم المسافر خير له من فطره: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].
وأما من يتحمل الصوم بجهد ومشقة كالشيخ الفاني، والحامل والمرضع إذا وجدنا في الصوم تعبًا ونصبًا فمن حقهم الفطر والفدية عن كل يوم طعام مسكين. قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]. (يرى بعض الفقهاء أن الحامل والمرضع عليها الفدية، والقضاء أيضًا، والأولى ما ذكر وهو تفسير ابن عمر رضي اللَّه عنه للآية).

4 - الصيام وتقويم المخطئ:
من أروع ما حصل به التشريع الإسلامي اتخاذ الصيام وسيلة لعلاج الخطأ وتقويم المخطئ، وهذه عدة تشريعات إسلامية كان الصيام فيها علاجًا ودواءً لانحراف الإنسان عن السنن القويمة، أو لتعويض ما فاته من الأسلوب الأفضل في الأداء.
(أ) في الحج:
المريض أو من به أذًى من رأسه يضطر إلى تغطيه الرأس وهو محرم، فعليه الفدية بصيام أو صدقة أو نسك.
والمتمتع بالعمرة إلى الحج عليه الهدي، ومن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا عاد إلى وطنه.
(ب) جريمة القتل الخطأ:
القتل جريمة منكرة، وإذا كانت على سبيل الخطأ خفف أمر عقوبتها من القصاص إلى الفدية والكفارة؛ لأن القاتل لم يتوافر لديه سبق الإصرار وهو الركن الأهم من أركان هذه الجريمة، قال تعالى في سورة النساء: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92].
وهكذا يكون الصيام كفارة للقتل الخطأ إذا عجز القاتل المخطئ عن وجوه التكفير الأخرى.
(ج) كفارة اليمين المنعقدة:
إذا أقسم المسلم على أمر مستقبل، ولم يتيسر له الوفاء بما أقسم عليه فحنث في اليمين فعليه كفارة اليمين على التخير صيام ثلاثة أيام - يشترط الفقهاء فيها التتابع - قال تعالى في سورة المائدة: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ}.
(د) قتل الصيد في الحرم والإحرام:
إذا قتل المسلم صيدًا وهو محرم، فذلك أمر يحتاج إلى تكفير؛ لأن فترة الإحرام فترة مسالمة، ولياذ بالله، وفرار إليه، ولا ينبغي للمحرم أن يخالف عن هذا الهدف حتى ولو بالاعتداء على حيوان.
ومن وجوه الكفارة الصيام. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}.
(هـ) كفارة الظهار:
الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنتِ عليَّ كظهر أمي. وهو نوع من الخروج عن أصول الحياة الزوجية، وسننها القويم، والمقدم عليها إنسان منحرف، قال تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}} [المجادلة: 2].
ومن هنا فعلى المظاهر كفارة، ومن وجوه هذه الكفارة صيام شهرين متتابعين من قبل أن يمس امرأته التي ظاهر منها، قال تعالى في سورة المجادلة: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
5 - الصائمون في موكب الفائزين يوم القيامة:
وفي موكب الفائزين أصحاب المثل القويمة، والمبادئ الكريمة، يذكر القرآن الكريم الصائمين والصائمات بين الوفود الناعمة بثواب الرحمن في جنات النعيم. يقول تعالى في سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

---------------------------------------
المصدر: مجلة (التوحيد) إصدار جماعة أنصار السنة، العدد (التاسع) 1/5/1393هـ، المجلد الأول- بتصرف.

إرسال تعليق

 
Top