كان لأهلِ الزَّيغ والفِكر الدخيل موقفٌ، أقل
ما يُمكن أن يُطلق عليه مِن المصطلحات هو أنه: موقف سلبي غير مبرّر مِن
أمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - إذ جعَلوهَا غرضًا وهدفًا، فوجَّهوا
إليها سهامَ الشبهات والطُّعون بكلِّ ما أُوتوا مِن حيلةٍ؛ للنيل مِن أمِّ
المؤمنين عائشة - رضي الله تعالى عنها - ولعلَّ سبب ذلك:
1-
أنَّ أمَّ المؤمنين الصديقة عائشة هي ابنةُ الصدِّيق خليفة رسولِ الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - مؤسِّس دولة الخِلافة الإسلاميَّة، وهازِم
الشِّرك والمرتدِّين، فانتقل حِقدُ هؤلاء المنهزمين مِن الصِّدِّيق إلى
ابنته الصِّدِّيقة عائشة - رضي الله عنهما - للنَّيْل مِن الإسلام، ودولته
ورِجالاته.
2-
أنَّ عائشة - رضي الله عنها - نقلَتْ إلينا كثيرًا مِن سُنَّة رسولِ الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - وفِقهه، فأرادوا ضربَ المرويَّات مِن خلال ضرب
الرَّاوي، فإذا سقَط الراوي سقطتْ مرويَّاته، وهذا ما يطمح ويأمُل إليه
أصحابُ الفِكر الدخيل؛ ذلك أنَّ كثيرًا مِن الصحابة والتابعين وخلقًا
كثيرًا قد أخَذوا عنها العِلم النبوي الشريف، فقد رَوَى عنها أصحابُ الحديث
(2210) أحاديث، ولها آراء فقهيَّة كثيرة، واجتهادات عديدة، وتخرَّج مِن
مدرستها - رضي الله تعالى عنها - عددٌ كبير مِن سادة العلماء، ومشاهير
التابعين، حتى قال أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -: "ما أشْكَل علينا أصحابَ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حديثٌ قطّ، فسألنا عائشةَ إلا وجدْنا عندها منه عِلمًا"[1].
وكان لأمِّ
المؤمنين السيِّدة عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - تلاميذ كُثُر مِن
التابعين الذي أخذوا عنها العِلم، ونَشَروه في الأمصار الإسلاميَّة، فصاروا
أئمَّةً يُقتدَى بهم في العِلم والعمل، ومِن أشهر هؤلاء - رضي الله عنهم
-: عُروة بن الزُّبَير[2]، والقاسِم بن محمَّد بن أبي بكر[3]، ومسروق بن الأجدع[4]، وعَمرة بنت عبدالرحمن الأنصاريَّة[5] - عليهم رحمة الله تعالى أجمعين.
وكان هؤلاءِ التلاميذ النُّجباء يتلقَّون
العِلم في غُرفة قصيَّة البِناء، مبنيَّة مِن جريد عليه طين مِن حجارة
مَرْضُومَةٍ، وسقْفها مِن جريد [6]، وكانتْ - رضي الله عنها - تضَع حجابًا بينها، وبيْن طلاَّب عِلمها النبوي الشَّريف.
3- لمعاداتهم لرسولِ الله
- صلَّى الله عليه وسلَّم - فعادوا نساءَه العفيفات الطاهِرات، وأصحابه
الكرام؛ حقدًا، وكرهًا لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودِينه
القويم.
4- كون
أحاديث عائشة - رضي الله عنها - شاملة لأغلبِ أمور الدِّين؛ مِن عقائد،
وعبادات، ومعاملات، وجِهاد، وفِتن، وغير ذلك مِن المواضيع الهامَّة في دِين
الله تعالى.
5- كون
كثيرٍ مِن الأحاديث التي ترويها أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -
حُجَّةً بالِغة، وأدلَّة صريحة هامَّة على صحَّة معتقد أهلِ السُّنة
والجماعة ضد المخالِفين.
6-
للتشكيك في الصحيحين: البخاري ومسلم، وغيرهما مِن كُتب الحديث؛ كون أئمَّة
الحديث يُكثِرون مِن روايتها - رضي الله عنها - وفي مقدِّمتهم الشيخان:
البخاري ومسلم، فالتشكيك فيها تشكيكٌ في كتب الحديث، والتشكيك في كتب
الحديث هدْمُ الدين الحنيف، وهذا ما يُريده هؤلاء - عليهم مِن الله ما
يستحقُّون.
ولهذه الأسبابِ ولغيرها حاوَل أصحابُ
الفِكر الدخيل تَجنيد كلِّ ما أُوتوا مِن قوَّة ومكْر وخِداع للنيل مِن
رُكن، ومِن أركان ناقلي دِين الله تعالى وسُنة رسولِ الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - لهذا انبرَى لها عددٌ مِن علماء الأمَّة وطلاَّب العِلم؛
لبيانِ شُبه القوْم، والردِّ عليها وفضْحها بكلِّ ما أُوتوا من عِلم وفضْل.
ولعلَّ أهم تلك الشُّبه والطُّعون التي سوف أُعالجها في هذا المقال:
الطعن بمرويَّات أمِّ المؤمنين عائشة الصِّدِّيقة - رضوان الله عليها -:
لقدْ زعَم الروافضُ أصحاب الفِكر الدخيل
أنَّ كل مرويَّات أمِّ المؤمنين الصِّدِّيقة عائشة - رضي الله تعالى عنها -
غير مقبولة؛ لأنَّها كانت تكذِب على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
بحسبِ زعْمهم.
فروَى ابن بابويه القميُّ الرافضيُّ قولاً منسوبًا إلى الإمام جعْفر الصادِق - رضي الله عنه - نصُّه: "ثلاثةٌ كانوا يكذِبون على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أبو هريرة، وأنس بن مالك، وامرأة[7]"[8]؛ ويعني بالمرأة: أمَّ المؤمنين الصدِّيقة عائشة - رضي الله تعالى عنها وعن أبيها.
وقال الرافضيُّ التُّستريُّ عن رِوايات أمِّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: "رِوايةُ عائشة كخِلافة أبيها فاسِدة"[9].
مِن المعلوم أخي الكريم أنَّ عائشة،
وأبا هريرة، وأنس بن مالك - رضي الله عنهم أجمعين - هُم أكثر الصحابة
حديثًا عن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقدْ روَى أبو هريرة -
رضي الله تعالى عنه - خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعين حديثًا.
كما رَوى الصحابيُّ الجليل أنس بن مالك -
رضي الله تعالى عنه - ألفين ومائتين وستَّة وثمانين حديثًا، أمَّا
الصِّدِّيقة أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - فقد رَوَتْ ألفين
ومائتين وعشرة أحاديث.
ولعلَّ سببَ غزارة عِلم عائشة - رضي الله عنها - ما يلي:
1- نشأتها في بيت النبوَّة:نشأت
السيدة عائشة - رضي الله عنها - في بيتِ النبوَّة فشاهدتْ أحوال النبي -
صلَّى الله عليه وسلَّم - واطَّلعت على أخبارِه، فتعلَّمت حِكمته، وكل
شُؤونه، وخاصَّة ما يتعلَّق بأحكام النِّساء.
2- لطولِ عمرها - رضي الله تعالى عنها -: فقدْ وُلدت
أمُّ المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - في مكَّةَ المكرَّمة قبلَ الهِجرة
بسبع سنين تقريبًا، وقدْ تربَّت - رضي الله عنها - شطرًا في بيتِ
الصِّدِّيق (تِسع سنين)، وشطرًا آخر في بيت النبوَّة (تِسع سنين أيضًا)،
وقدْ تُوفِّيت - رضي الله عنها - في خِلافة معاوية - رضي الله عنه - ليلةَ
الثلاثاء، السابعَ عشرَ مِن رمضان، سنة ثمانٍ وخمسين مِن الهجرة، وهي
ابنةُ ستٍّ وستِّين سَنة.
3- لحِرصها على العِلم النبوي الشريف:
فقدْ كانت أمُّ المؤمنين - رضي الله عنها - دقيقةً جدًّا في نقْل الموروث
النبوي، أمانةً في النَّقْل، وورعًا وخوفًا مِن الله - سبحانه وتعالى – "عن
عَمرة بنت عبدالرحمن أنَّها أخبرتْه أنها سمعتْ عائشة وذُكر لها أنَّ
عبدَالله بن عُمر يقول: إنَّ الميِّت ليُعذَّب ببكاءِ الحي، فقالت عائشة:
يغفِر الله لأبي عبدالرحمن، أمَا إنَّه لم يكذبْ، ولكنَّه نسِي أو أخطأ،
إنَّما مرَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على يهوديَّة يبكي عليها أهلُها، فقال: ((إنَّهم ليبكون عليها، وإنَّها لتُعذَّب في قَبرِها))[10].
4- لذكائها وقوَّة حِفظها:
امتازتْ أمُّ المؤمنين - رضي الله عنها - بالذَّكاء الوقَّاد، وقوَّة
الحِفظ والاستذكار؛ ممَّا ساعدها – بفضل الله - على حِفظ كتابِ الله تعالى
وأحاديثِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وفِقههما.
5- لعِلمها بالعربيَّة وفنونها وأشعارها:
لقدْ كانتْ - رضي الله عنها - عالِمةً بالعربيَّة وفُروعها، وأشعار العرَب
ونوادرهم، فصيحة اللِّسان؛ ممَّا ساعدَها على فَهم القرآن وتفسيره، وقد
تعلَّمتْ من والدها الصِّدِّيق البلاغةَ والفصاحة، فقدْ كان الصِّدِّيق
علاَّمة العرَب في ذلك.
6- لحِرْص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - على تَعليمها:
كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حريصًا على تعليمها؛ لِمَا
لَمَسه مِن ذكاء وفِطنة، فكان - عليه الصلاة والسلام - يُحدِّثها
ويُفقِّهها في الدِّين.
7- لنزول الوحي في فِراشها:فإنَّه لم ينزلْ على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الوحيُ في فِراش امرأة سِواها - رضي الله تعالى عنها[11].
8- لنشأتها في بيتِ صِدق وإيمان:
قالت - رضي الله عنها -: "لم أعقلْ أبوي إلاَّ وهما يَدينان الدِّين، ولم
يمرَّ علينا يومٌ إلا يأتينا فيه رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
طرفي النهار: بكرةً وعشيةً، ثم بدَا لأبي بكر، فابتنَى مسجدًا بفناء داره،
فكان يُصلِّي فيه ويقرأ القرآن، فيقِف عليه نساءُ المشركين وأبناؤهم،
يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكَّاءً، لا يملك عينيه إذا
قرَأ القرآن، فأفْزع ذلك أشرافَ قريش مِن المشركين"[12].
9- لمشاركتها في كثيرٍ مِن الأحداث المصيريَّة للأمَّة الإسلاميَّة:
كانتْ أم المؤمنين - رضي الله تعالى عنها - تُشارِك في كثيرٍ من أحداث
الأمَّة الإسلاميَّة، وقد بدأتْها بالهِجرة إلى المدينة المنوَّرة للحاق
برسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبيها الصِّدِّيق - رضي الله عنه - فالصِّدِّيقة
بنت الصِّدِّيق كانتْ منذُ أن فَتحتْ عينيها مسهِمةً ومشارِكة في خِدمة
هذا الدِّين ورسوله وأهله؛ لذلك كانتْ مشاركاتها في كلِّ مناحي الحياة
الإسلاميَّة وَفقَ الضوابط الشرعيَّة، حتى الغزوات منها؛ ففي غزوة أُحد
كانتْ - رضي الله عنها - تنقُل الماء بالقرب، ثم تفرغه في أفواه الصحابة
المنهَكين مِن القتال والعطش، وهذه المشاركة أكسبتها العلم والفقه العَملي
الذي أسْهم في بِناءِ الفقه الإسلامي فيما بعدُ.
روَى البخاريُّ - رحمه الله - عن أنس -
رضي الله عنه - قال: "لما كان يومُ أُحد، انهزَم الناس عنِ النبي - صلَّى
الله عليه وسلَّم - قال: ولقد رأيتُ عائشةَ بنت أبي بكر وأمَّ سليم
وإنَّهما لمشمرتان، أرَى خدم سوقهما تنقِّزان القِرب[13]، وقال غيرُه: تنقلان القِرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواهِ القوم، ثم ترجِعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواهِ القوم"[14].
ولهذا كان لأمِّ المؤمنين - رضي الله عنها
- مع غيرِها مِن الأعلام - رضي الله تعالى عنهم - علمٌ غزير، حُفِظ في
كُتب السُّنة النبويَّة الشريفة؛ ولهذا وجَّه الروافض الشبهاتِ والطعونَ
إليهم لإسقاطِ النصوص النبويَّة التي نقلوها.
قال الإمام أبو زُرعةَ الرازيُّ - رحمه
الله -: إذا رأيتَ الرجلَ ينتقص أحدًا مِن أصحابِ رسولِ الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - فاعلمْ أنَّه زِنديق؛ وذلك أنَّ الرسول حق، والقرآن حق، وما
جاءَ به حق، وإنَّما أدَّى ذلك كله إلينا الصحابةُ، وهؤلاء يُريدون أن
يَجرحوا شهودَنا ليبطلوا الكتابَ والسُّنة، والجَرْح بهم أولى، وهم
زَنادقة"[15].
والحقيقةُ التي تظهَر ممَّا سبَق:
أنَّ جميع الطعون والشُّبه التي أُثيرت
حولَ شخصية وعِلم أمِّ المؤمنين هي شُبهٌ مِن اليسير جدًّا الردُّ عليها
دون أيِّ تكلُّف أو صُعوبة، فقط على طالب العلم أن يُوقِن أنَّ مثيري مِثل
هذه الشُّبهات مِن أصحاب برامج ممنهجَة، غايتها النَّيْل من دِيننا الحنيف؛
لإطفاءِ نور الله تعالى، والنَّيْل مِن رموز الإسلام الكِرام؛ للقضاء على
هذا الدِّين الحنيف وأهله؛ لأنَّ دِيننا قد نُقِل إلينا عبر أمثالها - رضي
الله تعالى عنها.
والحمد لله ربِّ العالمين
[1] رواه الترمذي في سننه ، (ج5/ 705).
[2]
عروة بن الزبير : هو أبو عبدالله، القرشي الأسدي المدَني، أبوه الزُّبير
بن العوَّام ، حواري رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأمُّه أسماء
بنت أبي بكر، ذات النِّطاقين، وُلِد في خِلافة عمر بن الخطَّاب وتفقَّه
بالسيِّدة عائشة - رضي الله عنها - سير أعلام النبلاء، (ج4/ 425).
[3]
القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصِّدِّيق: هو أبو عبدالرحمن التيمي المدني،
الفقيه، قُتِل أبوه وهو صغير فتربَّى في حِجر عمَّته عائشة - رضي الله
عنها - فورِث عن عمَّته ومعلِّمته روايةَ السنة، حتى قيل: "أعلم الناس
بحديثِ عائشة القاسم وعُروة وعَمرة بنت عبدالرحمن"؛ تهذيب التهذيب.
[4]
مسروق بن الأجدع: هو أبو عائشة الوادِعي الهمداني، الكوفي، مسروق بن
الأجدع بن مالك بن أميَّة بن عبدِالله، وهو مِن المخضرمين الذين أسْلموا في
حياةِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كفلتْه عائشة - رضي الله عنها -
فلازَمها وحمَل عنها علمًا كثيرًا (تاريخ بغداد، ج13/233 - السير، ج4/ 67
-68).
[5]
عَمرة بنت عبدالرحمن بن سعْد بن زُرارة بن عدس، الأنصاريَّة المدنيَّة،
الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها، ضمَّتها عائشة - رضي الله عنها - مع
إخوتها وأخواتها إلى حجرها بعدَ وفاة والدهم، فنشأتْ في بيت التقوَى
والعِلم، وكانتْ ذكيَّة الفؤاد لمَّاحة، فوعتْ عن أمِّ المؤمنين كثيرًا من
العِلم، وكانتْ عالمة فقيهة، وحديثها في الكُتب السُّنة"؛ الطبقات (8/
480)، السير (4/ 508).
[6] "البداية والنهاية" لابن كثير (3/220).
[7] أي: عائشة الصديقة - رضي الله عنها.
[8] الخصال، لابن بابويه القمي، مكتبة الصدوق، طهران جانب مسجد سلطاني، إيران 1389 ق – 1348، (1/190).
[9] إحقاق الحق للتستري، نور الله التستري، المطبعة المرتضوية في النجف العراق، 1273 هـ طبعة حجرية (ص: 360).
[10] أخرجه البخاريُّ في صحيحه، (1/433)، ومسلم في صحيحه (2/643).
[11] تفسير ابن كثير (3/487).
[12] صحيح البخاري (1/181).
[13] تنقزان : تُسرِعان المشي كالهرولة.
[14] صحيح البخاري (3/ 1055).
[15] الكفاية في عِلم الرِّواية للخطيب البغدادي، القاهرة، جمهورية مصر العربية، (ص: 49).
إرسال تعليق