إن المتتبع والقارئ لتاريخ المغرب
الأقصى يجده تاريخ حافل بالأعلام والمقاومين والعلماء، وهذا أمر بديهي لأن
كل دولة لها مقاومين وأعلام عبر التاريخ، لكن أن تجد مقاوماً وعالماً
ومناضلاً في فترة لا تُذكر فيها المقاومة إلا بالرجوع إلى التاريخ، وفي
فترة انهزمت فيها نفوس المسلمين وسئموا مما هم فيه، فمن الصعب أن تجد شخصية
تتوفر فيها هذه الشروط. لكن المغرب كسرت هذا الحاجز، وبينت أن المقاومة لا
تنتهي ولن تنتهي، فأن تجد مقاوماً في القرن العشرين قليل جداً. هنا نستحضر
الأسطورة، الأمير المغربي (محمد بن عبد الكريم الخطابي) هذه الأسطورة الذي
ترك تاريخ حافل بالنضال والمقاومة ضد المستعمر الفرنسي والإسباني معاً.
في سنة 1301ه الموافق لعام 1883م، رُزق شيخ قبيلة في شمال المغرب يدعى
الشيخ عبد الكريم الخطابي مولود سماه محمد، تيمنناً بالنبي صلى الله عليه
وسلم، بإحدى قبائل الريف أغدير. عزم هذا الشيخ على تربية ابنه تربية صالحة
قائمة على التعاليم والقيم الإسلامية، فحفظ القرآن في سن مبكرة وأرسله إلى
جامعة القرويين بفاس، حيث ترعرع هناك على يد كبار الفقهاء في المدينة، وبعد
تخرجه عمل في تحرير جريدة تلغراف الريف بمدينة مليلية بالموازاة مع عمله
في القضاء الشرعي، مما ساهم في تكوين شخصيته السياسية والقيادية. في تلك
الفترة كان المغرب يمر بفترة قاسية جداً، فبعد أن فرضت إسبانيا نظام
الحماية على المغرب كذريعة لاحتلال المغرب واستنزاف خيراته، رفض والد
الخطابي الخضوع للاسبان، كما أدركت الدول الاستعمارية (الإستخرابية) الخطر
القادم من المغرب باعتبارها دولة قوية عبر التاريخ ومصنعاً للأبطال
والعظماء، فمنها خرج مجاهدو دولة المرابطين، ومنها أبحرت قوة دولة الموحدين
إلى أوروبا، فكان لابد من إنهاء هذا الخطر القادم من المغرب.
واجتمعت بعض الدول الأوروبية لإنهاء
دولة المغرب، فكانت النتيجة هي تقسيم المغرب بطريقة غريبة عجيبة لم تعرفها
شعوب العالم عبر التاريخ، فأخذت فرنسا القسم الجنوبي من مملكة المغرب، ثم
أخذت إسبانيا القسم الذي يليه من الشمال وسمته الصحراء الغربية، ثم مرت
أخرى فرنسا إلى الشمال من الصحراء ثم إسبانيا أيضا إلى أقصى الشمال، أي
الساحل الشمالي وهي منطقة ريف المغرب. بين ذلك وذاك احتلت كل من ألمانيا
وبريطانيا وغيرهما، مُدناً هنا وهناك، فضنت هذه الدول أن هذا التقسيم قد
أنهى الوجود الإسلامي في بلاد المغرب للأبد. لكن المغاربة كان لهم رأي أخر،
فبدأ الريفيون بإعلان المقاومة ضد المستخرب الإسباني، وهنا ظهر عبقري
وأسطورة المغرب محمد بن عبد الكريم الخطابي. المسلم الذي أذل اثنتين من
أكبر القوى الاستعمارية في عهده، وهدد عرش كل من فرنسا وإسبانيا
الاستعماريتين، ذاع صيت الخطابي كمناضل وأسطورة لا تقهر.
نشأ محمد
بن عبد الكريم الخطابي في بيئة تملؤها الصراعات والحروب، وأكمل دراسته ثم
عمل معلم وصحفياً في إسبانيا، ثم عُين بعد ذلك قاض القضاة لتعاونه مع
الإسبان، تعاوناً فسره هو آنذاك بأنه لا يمكن للمقاومة أن تنجح دون دعم
خارجي. لكنه سرعان ما أدرك حقيقتهم وبدأ في انتقادهم كصحفي، ثم أعلن وقوفه
ضد كل المستعمرين وعزم على تأسيس جمهورية الريف المستقلة فثم عزله من
منصبه، وزُج به في السجن لمدة 11 شهراً وعام 1918. انتهى شهر العسل ما بين
الإسبان والريفيين لتبدأ بذلك حملة المقاومة تحت قيادة والد الخطابي الذي
توفي مسموماً. وبعد ذلك رفع الخطابي راية والده، وبدأت قبائل الريف
بالانتفاضة تحت قيادة محمد ابن عبد الكريم الخطابي عام 1921م، وليبدأ بذلك
أذكى تقنيات الحروب في العالم ضد التقدم العسكري الإسباني الفرنسي حينها.
عُرف الخطابي بذكائه في الحروب، فكان هو مخترع حرب العصابات بحيث استلهمها
منه كل من المناضل الأرجنتيني تشي جيفارا والرئيس الصيني ماو تسي تونج
ووصفه بأنه "أحد أكبر الملهمين الذي علمني كيف تكون حروب التحرير". كما أن
المعارك التي شنها ضد فرنسا وإسبانيا كان لها أثر كبير على نفيسة المستعمر
بأبسط الإمكانات، يضربون ثم يختفون بلا أثر، وبتكتيكات نسخها جيفارا في
كوبا كما هي تماما. ولكن هذه الانتصارات لا تمثل شيئا بالمقارنة مع معركة
أنوال الخالدة.
إرسال تعليق